وتقطيع الأطراف. قال جل مجده:(إلا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض). وأي رجل هذا المنفى من وطنه؟ هو الذي يقول في هذا الوطن من القصيدة نفسها:
طني، لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي!
ولقد كان شوقي شديد الإيمان بالله تعالى وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر. ولم تحص عليه في هذا الباب زلة لسان أو عثرة قلم، وكان شديد الحنين إلى السيد المسيح صلوات الله عليه، دائم الذكر له في شعره ما واتته المناسبة. يذكره في عطف وشوق ولهفة، وإذا ذكرت ما ركب في طبع هذا الشاعر من الرقة والرحمة والحنو ودعة النفس أدركت الوجه في إيثاره لاسم هذا النبي الكريم بكثرة الإشادة والترديد
على أن شوقي. على شدة إيمانه هذا، كان في شباب السن مستهتراً بلذائذ الدنيا، مسرفاً في الإصابة مما يطيب له منها، لا يتأثم في هذا ولا يتكلف مداراة الناس، فبلغ فيه حداً يشبه الإباحية، ولكنه حين لحقته السن، قصر متعته على شهود (السينما) وحضور مجلس الغناء، وله من بلائه في النضح عن دولة الإسلام وفي مدحه لسيد الأنام أعظم رجاء في كرم العاقبة وحسن الختام ولقد قال في (نهج البردة)
إن جل ذنبي عن الغفران لي أمل ... في الله يجعلني في خير معتصم
وهو بعد هذا مفتن بأجمع معاني الكلمة، يكلف بفنه إلى حد الافتتان، بل إنه لا يكاد يرى الرجل كل الرجل يتمثل إلا في الشاعر.
ولا يرى للحياة في جميع صورها غاية إلا قرض الشعر. انظر كيف يقول على لسان إحدى من ينسب بهن:
جاذبتني ثوبي العصى وقالت: ... أنتم الناس أيها الشعراء!
ولقد كان إلى هذا شديد التمكن من نفسه حتى ما يرى في الدنيا شاعراً يباريه أو يتعلق بغباره.
شاعريته
لم يطاول شوقي في قرض الشعر ولم يجهد فيه؛ بل لقد جاء به فتى؛ وأطلقته قريحته الغضة عالي المعنى، فخم اللفظ؛ متلاحم النسج، ومدج الخديو توفيقاً وهو لما يزال طالباً