وكان يندر جداً أن تصل إلى المئات، وكانت تلك الفئة القليلة هي عصارة العقلية العربية، فكان الكاتب أو الشاعر أو المؤلف يلقاها بلا تكلف ولا تصنع كما يلقي إخوانه الأصفياء، وكذلك كان الحال في أكثر الأمم الشرقية والغربية، ولهذا السبب وحده كانت الآداب القديمة أصدق وأروع، لأنها خلت من الزور والرياء
أما قرائنا فيعدون بالألوف وقد يصلون إلى الملايين، وفيهم الغبي والذكي والعدو والصديق، وفيهم من يطيب له أن يحمل أقوالك غرائب التفاسير والتأويل، فمن حدثك من كتاب هذا العصر وشعرائه ومؤلفيه أن يصدق كل الصدق فيما يكتب وما ينظم وما يؤلف فهو خادع أو مخدوع، إلا أن يصنع مثل الذي أصنع في إيثار الرمز والإيماء
وإليك هذا الشاهد الطريف:
في وزارة. . . موظف أديب هو الأستاذ فلان حفظه الله، ومن هذا الموظف الأديب علمت وعلم جمهور من الأدباء أن مطبعة الرسالة نقلت إلى المنصورة، ولن ترد إلى القاهرة إلا بعد انتهاء الحرب. فهل تعرف كيف أستقي ذلك الموظف (الأديب) هذا الخبر (الصحيح)؟
استقاه من (خواطر مهاجر) التي ينشرها أخونا الزيات في الرسالة من وقت إلى وقت كلما بدا له أن يسجل مشاهداته عن أهالي الريف وقد أنتقل إليهم للترويح عن النفس في أيام الصيف، وسيرجع إلى القاهرة مع هلال شوال
ولو كان هذا (الأديب) أديباً لعرف أن نقل مطبعة الرسالة من القاهرة إلى المنصورة عسير لأسباب كثيرة أيسرها تكاليف ذلك النقل، لأن نقل مطبعة مثل مطبعة الرسالة من مدينة إلى مدينة يتكلف نفقات لا تغيب عن ذهن ذلك الأديب
وما دام الحديث ذا شجون فأنا أذكر ما قصه علينا المرحوم (أبو شادي بك) في إحدى خطبه بالأزهر أيام الثورة المصرية سنة ١٩١٩؛ قال الخطيب رحمة الله:
(أردت أن أعرف إلى أي حد تجوز الخرافات على الناس فقلت صباح الأمس وأنا راكب بالترام إن الألمان قد أتوا بالأعاجيب في العالم الاختراع، ومن ذلك أنهم حفروا بئراً في المنطاد زِبلنْ لتغنيهم عن حمل الماء في الأسفار الطوال، فلما كان المساء رأيت الناس يتحدثون عن ذلك الأختراع في إحدى القهوات)
ذلك ما قصه علينا أبو شادي بك، فهل أستطيع القول بأني أعاني من بعض القراء لواعج