تصل إلى من يوم إلى يوم رسائل أفهم منها أن في القراء من يحرف كلامي أبشع التحريف، وهم في الواقع على حق، لأن مذهبي في الأدب يقوم على أصول من الرمز والإيماء، ولكن لا مفر من التصريح بجزعي من هذا المصير المخيف، فقد كنت أتوهم أني فررت من جماهير العوام حين تحصنت بمجلة الرسالة وقرائها خواص، لأنهم في الأغلب من الصفوة المختارة بين أبناء هذا الجيل، فإلى أين أفر إذا كان في أمثال هؤلاء القراء من ينتظر أن أقدم إليه كلاماً في وضوح الكلام الذي يقدم إلى قراء الجرائد اليومية؟
وهل قلت الرقابات حتى نحسب حساباً لرقابة القراء، وهم فيما تفترض أخوان أصفياء؟
حولنا رقابة المنافسين (وهم أكثر من الهم على القلب)؛ وحولنا رقابة المتجاهلين، ورقابة المتعالمين؛ وحولنا رقابة عنيفة جداً هي رقابة أعداء الأدب الصريح. وليس لنا أصدقاء غير القراء، فهل نيأس أيضاً من القراء؟
وإلى من نتوجه إذا يأسنا من قرائتنا، وإليهم نبث نجوانا بعبارات هي نجوى الحبيب إلى الحبيب في محضر الرقباء؟
ومن موجبات الأسى أني لا أستطيع السكوت بحال من الأحوال، ولا يمر يوم واحد بدون أن أخلو إلى قلمي ساعةً أو ساعتين، ولو كان أخوناً الزيات ينشر كل ما أقدم إليه لظفر الأدب بألوان كثيرة من الحلم والجهل واليقين والارتياب.
ولكن الزيات يرى أنه أعقل مني، وأنه يعرف من العواقب ما لا أعرف، وبذلك يستبيح التغافل عن بعض ما أكتب في بعض الأحايين، وهو يعرف كيف يوشي ذلك التغافل يوشي الترفق والتلطف، كما كان يصنع سعادة عبد القادر حمزة باشا يوم كان يهذب ما أرسل إليه من المقالات الجوامح وأنا في باريس
وفي ظلال الرقابة التي يفرضها المجتمع ويفرضها القراء الأوفياء يراد منا أن نصدق كل الصدق في جميع الظروف، فهل رأيتم مثل هذا التحكم العنيف؟!
وأنا مع ذلك سأنتقم - وقد انتقمت - من أهل زماني. سأتركهم في بلبلة فكرية لا تنجيهم من أهوالها صَفارة الأمان. سأتركهم في حيرة أقصى وأعنف من حيرتي حين أهم بمواجهة نفسي، ولن أموت إلا وقد أوقدت في صدر كل قارئ جذوة لا تخمد ولا تبيت. وتلك هي