وهذا هو ما يفعله الأنبياء وأصحاب الرسالات، فهم ليسوا إلا بشراً وهم أشبه الناس بالفنانين، ولكنهم يزيدون على الفنانين قوة العقل وقوة الخلق إلى جانب قوة الإحساس، ولذلك فإنهم ساروا دائماً نحو المثل الأعلى في خطى ثابتة ومن غير قلق، ومن غير يأس، ومن غير شذوذ ولا خروج على قواعد الطبيعة وسننها
ولعل أقوى حجة من حجج أولئك الأنانيين الذين يمقتون الزواج هو قولهم إن مسئوليات الزواج تثقل على كاهل الفنان وتحرمه من الفن وتحرم الفن منه. وهذا قول سخيف، لأن الحياة من غير زواج ليست إلا (رهبنة) أو قرصنة، و (الرهبنة) شيء ليس من اليسير على الإنسان أن يحققه، ولو حققه الناس جميعاً لتعطلت الحياة التي أرادها الله، والقرصنة شيء قد يكون من اليسير على كل إنسان أن يحققه، ولكنه لو حققه كل إنسان لفسدت الحياة واضمحلت وتخاذلت ودبت إليها الأمراض البدنية والنفسية، ثم يعالجها بعد ذلك الموت السريع. ثم إن حياة الأسرة نفسها فيها تلخيص لقصة الخلق لا يمكن أن يتذوقه إلا من يباشرها؛ والعجيب أنه لا يمكن أن يتذوقها إنسان مثلما يستطيع الفنان الحساس العاقل القويم الخلق أن يتذوقها، فهي تجعل منه رباً صغيراً لجماعة من الناس الأحياء، وتمكنه من أن يرزق، ومن أن يعلم، ومن يصلح، ومن أن يوجه، ومن أن يعطي، ومن أن يجازى، ومن أن يحاسب، ومن أن يرحم، ومن أن يشفق، ومن أن يغفر، ومن أن يضمن الذكر لنفسه بعد موته، فيكون هو الوصلة بين الماضي والمستقبل، ومن أن يطلب حقه بلا تفريط ولا تهاون، ومن أن يعز ويعتز، ومن أن ينصر وينتصر، ومن أن يقول لشيء كن فيكون. . .
وهذا هو ما يريده الله لنا، وما يريده منا، ففي هذه الحياة من المعاني ما لو أنتبه الفنان وأستغله لأخرج منها صوراً وسلاسل لا نهاية من الفن الذاخر بالعواطف والفكر والمثل الخلقية العليا التي تفيض بها أنفس الآباء العاديين ويعجزون عن تسجيلها.
وقد يعترض علي معترض من غير المجربين ويقول لي: ما لنا نرى كثيرين من أفذاذ الفنانين الذين مجدتهم أنت نفسك واقعين في ذلك الشذوذ الذي تعيبه وهاربين من الزواج مع أنهم لا تعوزهم الحكمة ولا العقل ومع أن أفعالهم تشهد لهم بأن من الأخلاق الفاضلة ما