- أرجو أن تبقى هنا إلى جانبي أعوضك من حناني ما فقدته من حنان الأم. . . ألا تسمع. . .؟ إنني أرجو. . .
- أرجو أن تسكتي فقلبي عنك في شغل. . .
صادفت دعوت ألبير هوى في نفوس المنكوبين المغامرين الذين سرحوا من فرقته، وكان عملهم منظماً شأن رجال الجيش، فبعضهم لنسف الكباري، والبعض الآخر لقطع الجسور، وهؤلاء للسطو ليلاً على المخافر الصغيرة، والاستيلاء على الأسلحة والذخيرة، وأولئك لاقتناص البارزين من رجال الحملة الألمانية وغير ذلك من الأعمال التي سببت للمحتلين شتى المتاعب
وشاع أسم ألبير في وطنه وأكبر مواطنوه ووضع الألمان جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً
وكانت فلورندا تتلهف شوقاً لأخباره وقلبها الطاهر الغض يذوب إشفاقاً عليه، وكان جل مناها أن تراه فتتبعه رضي أم كره وتعنى به، فمن يطبخ له يطبخ له ويوقد له النار ويرتق له الصدار. . . كانت غارقة في الحب مسبوهة اللب، وكأنما كان ألبير يضفي على الحقل بهاء والدوح رواء والسماء صفاء، فلما ذهب أضحى الكون موحشاً كئيباً والجو خانقاً والشمس مصفرة حزينة كأنما تشاركها الألم وتقاسمها الشجون
وتأسى الأم لذهول ابنتها وإغراقها في حب رجل أهدر دمه. . . ولن يعود، فتقول:
- وهبك ملأت الأرض أنيناً، أفتظنينه يسمعك يا فلورندا
وتحطمها كلمات الأم فهو حقاً رجل هالك كان في حياتها كل شيء فلما ذهب خسرت كل شيء ولكنها لا تطرف ولا تجيب وتلوي عنانها إلى الحقل تطوف بمجالسه، وتلثم آثاره، حتى إذا ما ألقى الليل غواشيه قفلت عائدة وفي صدرها سعير من الوجد يذيب الحشا ويرمض الجوانح
ولم يذكرها ألبير فقد ملكت عليه ثورته لوطنه كل جارحة فيه، وكان ينفث من حميته الهائلة وفكره الجبار ناراً تدفع بزملائه إلى أهول الأخطار. فإذا انكفأت إليه ذكرياته وألح عليه ماضيه بدت له فلورندا شبحاً باهتاً يظهر ويختفي كلما سلب من حياته الجديدة ساعة فراغ
وضجت قيادة جيش الاحتلال من فعاله فشددوا الرقابة وبثوا في مظان وجوده العيون