الذاتي لا أجد شيئا من هذا الحكم الذاتي المزعوم، لأن هذه التربية التي تبالغ في حمدها لا تجعل العامة أحراراً، ولكنها تبعث على الغرور والادعاء في نفس متلقيها. والنتيجة هي أن هؤلاء العامة الذين تلقوا هذه التربية قد أصبحوا أكثر تعرضاً لخطر تجار الثقافة والمعارف، وأعني بهم أولئك الدجالين الذين يخدعون العامة بمقالاتهم الطنانة وإعلاناتهم الثقافية لابتزاز المال، لا من أيدي الصناع والعمال، بل من أنصاف المتعلمين. والدليل على قولي هذا بسيط. فلو كانت تربيتكم صحيحة حقاً لما ظل في بلادكم هذا النوع من تجار الثقافة، بل لضاقت عليهم الأرض بما رحبت فهاجروا إلى بلاد أخرى. أما وهم لا يزالون بين ظهرانيكم فهذا دليل على أن التربية القائمة عندكم لا تكون المناعة الكافية ضد تجار الدين والثقافة والعلوم
وشبيه هذا ما يحصل في ميدان السياسة. فالجمهور لا يستطيع طبعاً أن يفكر في شئون السياسة تفكيراً سليماً. وهو يظن زعماً أن تربيته قد كونت منه سياسياً مفكراً، هذا الظن الذي يجعله أكثر خضوعاً لأنواع الدعاية والإعلان السياسي. ويخيل إلى أن كل صانع أو عامل نال شيئاً من التربية العامة الأولية يعتقد أنه قدير على الفصل في الأمور التي ليس له فيها تجربة أو معرفة
إنك تدرك معي الآن أنه من السهل على أي خطيب من خطباء السياسة مليء الجيب وحاد اللسان، أن يخرج على الناس بمشروعات ضخمة يخدع بها أنصاف المتعلمين، فيرضي فيهم الميول الطائشة، ويستولي على مشاعرهم بإثارة عاطفة الادعاء فيهم ولقد حدثت عن أنواع السفسطائين الذين يحتالون باسم الثقافة والعرفان، والذين يعيشون بينكم ناعمي البال. وأعتقد أنك لا تستطيع أن تنكر أن هؤلاء إنما يرتعون في أموال المتعلمين من أبناء جنسك. على أن هذه الحال إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النفس البشرية لا تخضع دائماً للحقائق والمعارف الصحيحة التي تقدم لها في المدارس والمعاهد، وإنما تجنح إلى شيء آخر: إلى الخيال والكرامات، والمعجزات. وتقبل - كلما سنحت لها الفرصة - الخرافات والخزعبلات، بدلاً من أن تتقيد بقوانين العلم وأسس المعرفة الصحيحة. وذلك لآن الحقائق ليست حلوة المذاق دائماً، وليس لها تلك الجاذبية التي للدعاوى الخادعة
من أجل هذا كله أرى لزاماً عليكم أن تكونوا حذرين فيما تعملون لأجل سعادة أمتكم