للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويكتب في الصحف، وينقد الكتاب والمؤلفين. وقد تتغير الأزمنة وتتبدل ظروف الحياة وترقى الأجيال بعد انحطاط، ولكن هناك شيئاً لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء، ونقمة يصيب الله بها هؤلاء الذين يمنحهم شيئاً من حسن الذوق والقدرة على فهم الأدب وتقريبه إلى الناس. وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظاً عظيماً، فجعله شاعراً مجيداً وكاتباً بارعاً، وناقداً مسموع الكلمة، مهيب الجانب، مقدور الرأي، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه. وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس على ذلك وأشدهم طلبا له وإلحاحاً فيه. والكتب تمطر على الأستاذ المازني، ويمطر معها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس. وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه، إلى هؤلاء الناس الذين يكتبون، والى هؤلاء الذين يقرأون. ومن هنا ومن جهات أخرى أيضاً كان المازني شقياً بالأدب، وأن كان الأدب سعيداً بالمازني، وأي دليل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن؟

فقد اخرج كاتب من الكتاب كتاباً من الكتب، وأهداه إلى الأستاذ بالطبع. وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدى إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئاً كان الإلحاح. واضطر المازني إلى أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب، ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده. فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد. فدفع إلى رحلة غريبة، والى استكشاف أغرب. دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع، وتجري فيها السيارات، وتنتشر فيها الشرطة، والتي لا تتغطى أرضها بالوحل، ولا تمطر سماؤها مرقا ولا مخللا، إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين، وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق، وعرف الهرب والغلو فيه، وعرف كيف يكون وقع الأحجار على الأجسام، وكيف يكون وقع الشتائم في النفوس. ثم عرف كيف يفقد الناس طرابيشهم، وكيف ينظرون إليها وهي تهان وتمرغ في الوحل تمريغاً، ثم عرف كيف يدفع الهاربون إلى اقتحام الدور والاستخفاء في البيوت وقد غاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>