كما جعل الصبر في آخر درجات الفضائل حين عددها في آية البر فقال:(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
وبين القرآن أن الله سبحانه يحب الصابرين الذين يثبتون على الشدائد، ولا يهنون لما يحزُ بهم من النوائب:(وكأيِّن من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين) وحسبك بمحبة الله نجحاً وفلاحاً وسعادة.
والصبر قوة أعظم من قوة العدد، تغلب به الفئة القليلة الفئة الكثيرة. قال في قصة طالوت وجالوت:(فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة اليوم بجالوت وجنوده. قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. فهزموهم بإذن الله). وكذلك أمر القرآن المسلمين أن يلقوا عدوهم الأكثر عدداً وهم صابرون، وبشرهم بأن الجماعة منهم تغلب عشر أمثالها بالصبر، وجعل الصبر أكثر من تسعة أمثال العدو غَناء في الحرب. قال في سورة الأنفال:(يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال. إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).
ولما أراد أن يخفف عن المسلمين هذا التكليف أمرهم بأن تلقى الجماعة منهم مثليها فقال:(الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين). فأقل مراتب الصابرين أن يغلبوا ضعفهم. والحق أن العدد لا يثبت للصبر، وأن كثرة العدد فاشلة إذا خذلها الصبر، وأن قلته ظافرة إذا أيدها الصبر. وربما تغلب الفئة الصابرة مثليها، وربما تغلب عشر أمثال أو مائة مثل. وحوادث التاريخ على ذلك شاهدة.
وأما في غير الحرب فالواحد الصابر يدعو إلى طريقته، ويصبر على دعوته، ويحتمل في سبيلها ما يلقى من عنت وأذى وسخرية حتى يغلب بصبره الأمة الكبيرة ويقودها إلى