دع هذا ثم اقلب الصفحة إلى حيث تلمح بين سطور هذا الكاتب لمحة مما في سليقة أمته من روح الفن وحب الجمال
فهؤلاء القوم الذين تتساقط عليهم كِسَف الفضاء صباح مساء، والذين ينظرون إلى السماء فلا يأمنون رجوم الموت وصواعق الأعداء.
هؤلاء القوم تشوقهم ليالي القمر لما تعرض لهم من أشعة وظلال، ومشاهد روعة وجلال، ويقول كاتبهم هذا:(إن المدن والحقول وهي محلاة بالفضة القمرية لتبرز لك كأنها في يوم خلقها الجديد. ولقد قيل: إن هتلر فخور بأن يسلك نفسه مع رجال الفنون. فمن الحق إذن أن نقول إنه أفلح فلاحاً يتجاوز الأوابد من أحلام ريمبران. . . لأن الأشباح والظلال في أحقر الشوارع التي يفعمها الأسى والشجى بالنهار، لتضفي على أعطافها في القمراء جمالاً وهيبة كأفخر ما تلقيه هياكل يونان).
قلت: إن الكاتب الإنجليزي استوحى معاني القمراء على سنة الغبطة في موضع الألم وكتابة الشمال في موضع كتابة اليمين، وأخال أن الأمر فيه اختلاف غير اختلاف الشرق والغرب أو غير اختلاف كيلنج الذي قال إن الشرق شرق والغرب غرب وليس لهما لقاء.
فالمغيرون في إنجلترا ألمان، والمغيرون في مصر طليان، والأولون يغيرون ليل نهار، ولا يقصرون الإغارة على مواعد الأقمار.
أما الطليان فيغيرون في (القمراء)، ويخطئون الأهداف في الظلام والضياء على السواء.
فإذا كان أنس الإنجليز بليالي القمر أعظم من أنسهم بليالي المحاق فلا غرابة في ذاك؛ وإذا عكسنا نحن الأمر فما نحن بمخطئين وإن كنا لنرجو أن يكثر فيها المحبون للأشعة والظلال، إلى جانب المجفلين من الأوجال والأهوال.
وخصلة أخرى في هؤلاء الغربيين أنهم يسبغون خيالاً على كل حقيقة، ثم يستخرجون عبرة من كل نكبة، أو كما يقولون فضيلة من كل ضرورة.
هم لا ينامون مع الغارات المتواليات إلا غراراً، وفي النهزة بعد النهزة على غير موعد محدود ولا وتيرة معروفة.
فهل تركوا هذه الحالة بغير عبرتها؟ وهل أبطئوا في استخراج الفضيلة المشكورة من هذه الضرورة القاهرة؟