قضى الدكتور طه بقايا العام الدراسي بحنق وغيظ، فقد كانت الجرائد الوفدية تنوشه في كل وقت، وكانت المجلات الدينية تسوق إليه التهم الجوارح بلا حساب؛ ولا يملك الدفاع عن نفسه بحرفٍ واحد، وهو الرجل العِرِّيض الذي قضى صدر شبابه في التلهي بعداوات الرجال.
فماذا يصنع؟
رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها الفِيح!
وهنالك خطر له أن يُملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين؛ فكانت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل.
وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة ١٩٢٦ عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكرات عن حداثته، وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العبادي ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس.
وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات، وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف.
وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الأحاديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقصّ عليّ قصته يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنتين، وكيف ضحك اخوته وبكتْ أمه وانزعج أبوه. فعرفت أن تلك المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان.
ثم نَقل الحديث إلى شؤون الجامعة المصرية وإلى المصير المحتوم في مصر لحرية الفكر والرأي، وما نقل الحديث إلى هذا الميدان إلا ليهرب من مكاره تلك الذكريات.
مواهب طه حسين
هذا الرجل موهوب بلا جدال، ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب، فهو يسطَع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأفول.
ترجَم لأبي العلاء فأفلح، ثم ترجَم للمتنبي فأخفق، لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء.
وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة، ثم فتر في الجزء الثاني.