والجزء الأول من (هامش السيرة) سِفرٌ نفيس، أما الجزء الثاني فهو أيضاً (سِفرٌ نفيس).
وكان أستاذاً في الجامعة المصرية القديمة، أستاذاً عظيماً، أستاذاً يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين؛ أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.
وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحوّل في مثل ومضة البرق إلى عدوّ مُبِين.
وهو على الرغم من ضعفه عن الاضطلاع بتكاليف المواهب رجلٌ جذَّاب، لأنه معسول الحديث، ولأنه قد يصدُق في الحب وفي البغض، إلا أن تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يصادق ويصالح من يعادي، كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب.
ويشهد الدكتور طه على نفسه بأنه ضرير، وذلك فنٌّ من الإعلان، فقد صحبته نحو عشر سنين ولم أتنبه إلى أنه ضرير. وكيف أصدِّق دعواه وما رأيت رجلاً أرشق منه في تناول الشؤون التي يتناولها المبصرون؟
كنا نخرج من الجامعة المصرية حين كانت في قصر الزعفران فنثب إلى (المترو) بعد أن يتحرك ولا يشعر أحد بأنني أصاحب رجلاً من المكفوفين.
ومن يصدِّق أني لم أفكر في حلق ذقني بيديّ إلا بعد أن رأيته يحلق ذقنه بيديه؟
وهو يمشي بقامة منصوبة تزري برشاقة الرمح المسنون.
وهو - لتوهمه أنه ضرير - يحاول التأثير باللسان حين فاته التأثير بعينيه، ومن أجل هذا نراه أعجوبة الأعاجيب في إبراز مخارج الحروف.
ولشعوره بأن لسانه مصدر قوته يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحاً يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يُملي وبما يقول.
وخلاصة القول أن طه حسين هو طه حسين، هو الرجل الذي استطاع أن يقيم البراهين على أنه من أقطاب الأدب في هذا الزمان.
ولو كنت أصدق أنه أعمى لكففت عنه قلمي، ولكني واثق بأنه مبصر، وبأنه أستاذ قدير، ومفكر حصيف، وأديب موهوب، وأنا لا أكف قلمي إلا عن الضعفاء.
وما قلت إنه أعمى إلا لأن درس اليوم يوجب ذلك، فليتناس هذه العُنجُهية القلمية، فما كنت