وهنا يظهر صدق طه حسين، فقد حدث عن نفسه أنه كان في طفولته سريع النسيان، وأنه لذلك قاسى مكاره الخجل والكسوف بضع مرات، ولو أنه أخبرنا أنه كان يحفظ كل ما يسمع، وأنه لم ينس أبداً ما كان يحفظ، لما كان في ذلك شبهة من تزيُّد أو إسراف، لأن سرعة الحفظ لا تُستَغرب من العُميان، ولكن طه حسين سما بفنه سمواً هو الغاية في الإخلاص للصراحة والصدق، وهما الدعامة الأصيلة للأدب الرفيع.
طه حسين أعمى، فيما يزعم، وهو كثير المزاعم، والأعمى يرى الدنيا بأذنيه ويديه، أما أذناه فهما طويلتان، وقد حدثنا أنه كان يمدهما مداً ليزيدهما طولاً إلى طول، عساه يستوعب ما يدور حواليه من أقوال وأخبار وأقاصيص. وأما يداه فقد قويت فيهما عضلات اللمس إلى أبعد الحدود، ألم يحدثنا أنه كان يعرف الناس بنعالهم لكثرة تقليبه في النعال؟
وخلاصة القول أن الدكتور طه قد التزم الصدق التزاماً تاماً في كتاب الأيام، وكان من آثار ذلك الصدق أن يأسر جميع من قرءوا مذكراته عن طفولته وصباه، لأن الصدق خُلقُ نفيس، وهو يزيد الأديب جلالاً إلى جلال.
يضاف إلى ذلك أن صدقه يوجب العطف عليه، ويحوّل شانئيه إلى أنصار أوفياء.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أُلاحق الفكرة التي تدور في خاطري عن كتاب الأيام، وهي تنفر وتَشرُد، فمتى أقتنص تلك الفكرة وهي نَفورٌ شرود؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين رجلاً قد نسى أنه مسؤول عن طه حسين طفلاً، فهو يشرِّح أوهامه وآثامه بلا ترفق ولا استبقاء، وهو يتجنى عليه كما يتجنى على خصومه الألدّاء.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يقيم الدليل على أنه يملك السيطرة على هواه حين يريد، وهل من هواه أن يَسخر بماضيه وأن يعترف بأنه كان نفعياً في طفولته وصباه؟
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد انسلخ عن ماضيه كل الانسلاخ، ولم يعد يخشى أن يقال إن طه حسين الرجل ليس إلا صورة من طه حسين الطفل، وإن بقيت في وجهه وعقله وروحه ندوب من معارك ذلك العهد السحيق.
لعلي أريد القول بأن طه حسين قد أراد أن يدلل ويبرهن على أن الأشجار البواسق لم تكن