ولنستعرض تاريخ الإنسان على هذه الأرض لندرك مدى مركزه فيها، ولنعطيه من تاريخه مصباحاً يرى به نفسه: إن الله أسلمه الأرض، وليس فيها شيء معقد التركيب غير الأجسام العضوية الحية، وهي أجسامه وأجسام الحيوان والنبات. أما المادة فأسلمها إليه بسيطة في صورها الأولى وخاماتها البكر، فما زال يدور حولها ويعبث فيها وينبش ويخرج أسرارها واحداً بعد آخر حتى حدثته أخبارها، وأخرجت له أثقالها، ووضعت بين يديه أجنتها وعيالها، واستفاد من تجاربه فيها عقله وحكمه - والعقل هو حفظ التجارب والحكم بمقتضاها - وعلمه ووثائق سيرته ومدونات فكره. وكلما أنماها وعقد نموها أنمت هي فكره وعقدته - والتجاوب بين المادة والفكر قانون - حتى ملأ الأرض بما ولد منها وأخرجه من كوامنها وركبه من بسائطها
وشاء الله أن تكون قوة الفكر في الإنسان لا حد لها، فصارت تخاريج المادة وفروقها وتمايزها لا حد لها. . . وتارة يكون كشفه عن أسرارها بطريق الصدفة، فيلقط ويدون، كما هو واضح من نمو علم الكيمياء، فإن كل أمورها تجريبية لا دخل للفروض والظنون والتجريدات فيها. . . وتارة يكون الفكر سابقاً قادراً على الفروض وقياس النسب الغائبة على الحاضرة.
أي تارة تكون الطبيعة سابقة في الوحي إليه، وزيادة علمه وفكره، وتارة يكون هو سابقاً في الوحي إليها وزيادة موجوداتها ومشاهدها
وإني لأستعرض أعماله في الطبيعة منذ أن كان هائماً لا سقف له يصنع من ورق الشجر ستاراً لسوأته، ويتخذ من الحجر خنجراً لسطوته، إلى أن صنع لباسه الأوربي المعقد المنوع المزين الملون، وصنع بيته من ناطحات السحاب، وآلات سطوته من الطوربيد وسلة مولوتوف. . . ومركبه من الحصون الطائرة، واستوعب جميع أجزاء الآلات المعقدة في رأسه قبل تركيبها بمساميرها وحذافيرها. . . وصنع له مجاهر ومقربات يقرب بها مشاهد السموات والسدم ويحلل عناصرها، ويكبر بها أحجام الجراثيم ويقيس بها الخلايا ويحكم بها على كل أولئك حكما صحيحاً خاضعاً لمقاييس الحس والفكر. . . أستعرض أعماله هذه فأراه بعد ذلك قانوناً نامياً لا حد لنموه في ذاته وقانوناً منمياً للطبيعة وصورها وأشكالها لا حد له كذلك.