وسلامتها ريب المنون، وكتلك التي ألقاها شيشرون في مجالس الأعيان دفاعا عن شؤون الجمهورية الرومانية، وقد نفق هذا النوع في مصر الحديثة على لسان الزعيمين الكبيرين مصطفى باشا كامل وسعد باشا زغلول، وهذا الفن وليد الحرية السياسية والحياة الديمقراطية والأنظمة الدستورية. فإذا منيت الشعوب بالاستعباد أو طغيان الاستبداد تلاشى وانقرض، كما تلاشى في اليونان حينما وقعوا في العبودية، وانقرض عند الرومان حين فدحهم طغيان القياصرة، وهناك الشعر السياسي أيضا كالشعر الذي كانت تصطنعه الأحزاب والفرق في صدر الدولة الإسلامية. ومن ذا الذي ينسى فيضان بحور الشعر وطغيانها في بغداد ودمشق حين أعلن الدستور العثماني؟ لقد كان الظلام ضاربا على العيون، والجهل غالبا على الافئدة، والجمود مستوليا على العواطف، وقوى العرب المنتجة معطلة، وأياديهم العاملة مغللة، فكان إعلان الدستور بسمة الأمل في قطوب اليأس، وومضة المنارة في بحر مكفهر الجو بالضباب مضطرب الموج بالعواصف، فاهتزت النفوس وانطلقت الألسن وصدحت البلابل تنعى الليل وتبشر العيون بالصباح.
كذلك من هذه العوامل اختلاط الأجناس المختلفة العقليات والعادات والاعتقادات بالمصاهر والمجاورة في أمة واحدة، وأثر هذا العامل أظهر ما يكون في دولة العباسيين في بغداد ودولة الأمويين في قرطبة، فان حضارتيهما نتيجة اختلاط شعوب مختلفة لكل شعب منها خصائص ومزايا أكملت نقص الآخر وساعدته على العمل والإنتاج ففي البلدين اتصلت المدنية السامية بالمدنية الآرية فالتقى التصور العميق بالتصوير القوي، والعقلية العلمية بالوجدان الشعري، وكان من أثر هذا اللقاح في الفكر والعقل ما يعلل لنا وفرة المعاني الجديدة في شعر بشار وأبي نواس وأبي العتاهية وابن الرومي. ولولا هذا اللقاح المخصب العجيب لظل الأدب العربي ظامئ الجذوع دقيق الفروع ذابل الأوراق واحد المذاق قليل الثمر.
ومنها التقليد والاحتذاء، والتقليد فطري في الإنسان لا يستطيع بدونه أن يتكلم ولا أن يتعلم ولا يملك لنفسه اكتساب عادة ولا تربية خلق، ولولا الاحتذاء لما كانت فنون الآداب، لأن الشعر والنثر إنما يصاغان على قواعد وأساليب خاصة. وما مراعاة هذه القواعد والأساليب إلا اقتداء الأديب بمن سبقه سواءً أكان إقتداؤه مقصودا منه أم غريزيا فيه.