على أن التقليد الذي نقصد إليه هنا هو تقليد أمة لأخرى لشدة ارتباطها بها، أو لاعتقادها السمو في آدابها، وقد أشرت منذ هنيهة إلى مثال من ذلك وهو ظهور القصص التاريخية في إنجلترا وانتقالها إلى الأمم الأخرى بالاحتذاء، ولقد كان للتقليد في الآداب القديمة شأن نابه وأثر ظاهر. فالشعر اللاتيني في عصر أغسطس عاف أساليبه الفطرية وأوزانه القديمة، واغترف من بحور الشعر اليوناني فحاكاه في أوزانه وأنواعه ومعانيه، والأدب الفرنسي قبل (رنسار) و (ماليرب) كان حائراً بين اللاتينية والإغريقية، والتمثيل إنما نشأ بديا في كنائس رومية وباريس أثناء القرون الوسيطة لتمثيل صلب المسيح وآلام الشهداء الذين أوذوا وقتلوا في سبيل المسيحية على نحو ما يفعل الفرس من تمثيل ما أصاب أهل البيت من الخطوب والاضطهاد والمحن، ثم انتشر التمثيل بالتقليد في سائر الأمم. ولما حييت الآداب اليونانية واللاتينية واطلع أدباء الغرب على ما صنف فيهما من الروايات التمثيلية تهافتوا على تقليدها واقتباسها فدخل فن التمثيل من جراء ذلك في طور جديد. ولو شاء الله لأدبنا الكمال من نقصه لألهم المترجمين في عصر المأمون أن ينقلوا روائع الأدبين الإغريقي واللاتيني من الشعر والقصص والروايات والخطب والملاحم كما نقلوا العلم والحكمة، إذن لقلدهم أدباء العرب في ذلك ولسدوا في الأدب العربي خللا ما بريء منه حتى اليوم. إنما استفادالأدب العربي من التقليد في فن الحكايات والأمثال حين ترجم ابن المقفع وبعض الكتاب شيئا من القصص الفارسي ككليلة ودمنة وهزار افسانه ودارا والصنم الذهب، فكان ما ترجموه حديا للعرب ونموذجا لهم في وضع ما وضعوه منها.
أما الأدب الفارسي والأدب التركي فهما صنيعة التقليد ونفحة من نفحات الأدب العربي، فان الفرس حينما استولى الإسلام على أفئدتهم ولغته على ألسنتهم ظلوا زهاء قرنين يقرضون الشعر بالعربية دون الفارسية. فلما هبوا في القرن الثالث يستردون مجد أجدادهم، ويطاردون العربية ونفوذها من بلادهم، ويوحون إلى شعرائهم من أمثال الدقيقي والفردوسي أن يجددوا مفاخر الأسلاف بتأليف المنظومات القصصية والأناشيد القومية لم يجدوا ذلك ميسورا إلا باحتذاء الشعر العربي واقتباس أوزانه وبديعه وكذلك فعلوا في النثر فقد أخذوا يوشونه منذ أوائل القرن الخامس برشيق الألفاظ وغريب المجاز وزخرف البديع اقتداء بما نشر في أقاليم العجم الشمالية الشرقية من الكتب التاريخية العربية التي كتبت