ولم يلجأ أحد في لغة من اللغات إلى الشعر المرسل لكتابة الأغاني، وهذا ما لا يراد به في اللغة العربية. فالأغاني وكل ما يعبر عن العواطف الثائرة التي تهز القلوب هزة وقتية قصيرة لا ينفع فيها الشعر المرسل. أقول هذا وأكرره كثيراً حتى لا ينزعج الأدباء من دخول هذا الباب في اللغة العربية. وما أنا ممن يحاولون هدم القديم إذ إني أفاخر بذلك القديم وقد تقدمت بي السن إلى حدود القدم، فلست ممن يتعلقون بالهدم، ولست ممن لا يحرصون على كنوز القرون المتعاقبة، بل أجد من نفسي أشد الحرص على تلك الكنوز، وذلك لما استمد منها من لذة وحكمة. وإنما اقصد إلى أن أفتح باباً جديداً كان إلى الآن مغلقا وهو باب القصة الشعرية أو الملحمة الطويلة، وفي مثل هذه الأبواب كانت القافية غلا يقيد المعنى، ويغير مجاريه، حتى أن شعراء اللغات الأخرى رأوا أنفسهم مضطرين إلى الاستغناء عن القافية والاكتفاء بموسيقى الوزن. ولو فعل البستاني مثل ذلك في ترجمة الإلياذة ولو فعل شوقي مثله في رواياته المسرحية لكان لعملهما شأن آخر، ولصارت الإلياذة العربية اليوم في متناول المتأدبين سهلة لينة، ترسم صورة الإلياذة اليونانية الأصلية، وليست كما هي اليوم، فالقطع الشعرية الطويلة تكون طللا يابساً غيرمتناسق، ولو كانت أجزاؤه من قطع مرمرية بديعة، فانك عندئذ إذا نظرت في القطعة الصغيرة منها أعجبتك ولكنك إذا تابعت النظر إليها لتراها مجتمعة راعك منظر غير متآلف وحركات جامدة غير متوثبة مع الحياة. لست ادعى إنني أحسنت، ولكني أقول قول الواثق أن الشعر المرسل يكون أداة إصلاح وسعة في اللغة العربية إذا وجد من يحسن القول فيه. وإذا أنا ضربت من قولي مثلا له فلست أضربه على أنه قول حسن، ولكني اضربه على سبيل العرض للطريقة: وهانذا مختار قطعة من مواقف خسرو وشيرين، وارجو أن تكتبها الرسالة الغراء كما أردتها أن تظهر - أي أن تكون وحدتها الشطر الواحد.
وقف بعض قواد الملك كسرى في أيام مجده وجبروته يتحدثون ويتذمرون، فأقبل عليهم شاعر البلاط (مهمند) فقطع عليهم حديثهم فدخلوا في حديث دعابة مع الشاعر، والقواد هم (أسفاذ) و (تخوار) و (حراز).