والتماثيل. . . ولقد اختفت روح الحياة الرفيقة الوديعة الماثلة في اللحم والدم والأعصاب الإحساس وابتدأ عالم جديد من فكر مجرد غير مصحوب بإحساس وقد لبس الفكر أجساما من المادة العمياء، وكأنه قد انفصل عن الأجسام الإنسانية، واختبأ واستسر في السيارة المصفحة والدبابة والطائرة. وصار يدب ويطير بهذه الأجسام الحديدية كأنه هو والحديد الذي يختفي فيه جسم واحد. فهو للآله كالروح والعقل في الجسم الحي. وقد صنع للآلات أحشاء فيها حرارة ونبض، ولكن ينقصها السر الإلهي فيالأميبة ذات الخلية الواحدة، ويخيل إلى أن الإنسان هو ذلك الإلهي لتلك الحيوانات الحديدية وحين قصرت دواب الأرض التي سخرها في خدمته عن سرعة عقله صار يبحث عن القوى المجردة كالكهرباء ويلبسها أجساما من الجماد، ويسيرها بها بطاقة عظيمة مصحوبة بفكره وتسديده. فترى السيارة الآن تحيد عن العقبات بأسرع مما يحيد الحصان عنها. فهي أطوع للانسان من الحصان، لأنها ترى بعينه وتتحرك بسرعة فكره والفكر المجرد طليق في غير حدود. والوجدان والإحساس مقيدان في حدود الأذواق والمشاعر. فإذا لم يصحب الفكر بالوجدان والإحساس اختراق الإنسان به الآفاق في سرعة فائقة كأنه شعاع ثاقب، بل أسرع من الشعاع. بل ليس شيء أسرع من الفكر ولقد يخيل لفكر الإنسان أنه يستطيع أن يضع يده في النار فلا تحترق، ويمشي برجليه على الماء فلا يغرق، ويسلم جسمه للريح فيطير، وينظر بعينه وراء السدود فيرى ما وراء الآفاق. فالفكر لا يرى كل أولئك مستحيلا. . . ولكن الوجدان والإحساس يقيدانه بالحدود الموضوعة للمادة، ويهددان الجسم بالألم إذا لم يعترف بهذه الحدود والقوانين وقد خيل الفكر لبعض السفسطائيين اليونانيين قديما أن كثافة الأجسام وهم من الأوهام، وأقام الدليل النظري لمعارضيه على ذلك، فتحدوه أن يخترق بجسمه الجدار الذي أمامه، فقام واندفع إليه بقوة، وكانت النتيجة المحتومة: تحطم جسده وفدخ رأسه. . . إن فكر السفسطائي لم يخطيء في توهمه استطاعة اختراق لبجدار، ولكنه أخطأ حساب الوجدان والإحساس. والحقيقة أن الفكر لا حدود له ما دام يسير وراء القوانين الطبيعية. . . فلقد استطاع أن يخترق الجدران والجبال بالصوت والصورة والحركة حين خضع للنواميس الطبيعية فخضعت هي له كذلك. ولست أدري أقريب أم بعيد ذلك اليوم الذي يستطيع الإنسان فيه أن يخترق الأجسام بالأجسام مع وجود الالتئام وعدم الصدام، وأن ينقل