لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس
وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكىء على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعا أسهل عليً من أن ألم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناّ في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنشتريح في جلستنا في ملابسنا الأفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيافته، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معاّ، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي