وقوة العقاد في هذه المقالة تستر ضعفه وهو يصور إحساسه حين وقف (على معبد إيزيس) فالفرق بين المقالتين بعيد، لأن الكاتب كان انتزف قوته في المقال الأول فهمد في المقال الثاني، والُقوي الإنسانية لها حدود.
المتنبي في كتاب المطالعات
انساق العقاد إلى الكلام عن المتنبي وهو يدرس رسالة الغفران للمعري، فكانت فرصة لتشريح بعض الجوانب من ذلك الشاعر الصوَّل.
وتظهر دقة النظر عند العقاد في أكثر ما كتب عن المتنبي، فالأدباء يرون تَسامي المتنبي إلى المُلك من شواهد العظمة النفسية، أما العقاد فيرى ذلك التسامي ضرباً من الخذلان، لأن المتنبي أخطأ حين (ظن أن السموْ لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان).
ثم انتهى العقاد إلى أن المتنبي المخذول في طلب المُلك صار على الزمن (أظفر ما يكون خائباً وأخيب ما يكون ظافراً). فهو (ليس بملِك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات)
وهذا كلامٌ نفيس جداً، ولكنه يحتاج إلى تعقيب، فانحراف المتنبي في فهم العظمة الذاتية هو السبب في ما صار إليه من العظمة الباقية على الزمان.
المتنبي قضي دهره في طلب المُلك، ولو عَقَل لأدرك أن الشاعرية الحق أبقى على الزمن من المُلك.
ذلك ما يريد العقاد أن يقول، ولكن ما رأيه إذا حدثناه أن ذلك الانحراف هو الذي أوجب أن يولع المتنبي بدرس أوهام العوامّ والخواصّ؟ ما رأيه إذا حدثناه أن تلك النزعة المنحرفة هي التي فرضت على المتنبي أن يدرس الموارد والمصادر من أخلاق الناس وأن يوغل في التعرف إلى ما هم عليه من هدى وضلال؟
لو أعفى المتنبي نفسه من طلب المُلك لوقف عند الخالص الصريح من أوطار النفس وأهواء الوجدان، فكان صورة ثانية من البحتري شاعر الروح الصداح والقلب الطروب.