للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

طلبُ الملك غَّير ما بنفس المتنبي فنقله من أفق إلى آفاق، وحوله إلى رجل طُلَعة لا يهمه غير درس المستور من أصول الوشايات والأراجيف، وحوّله أيضاً إلى رجلِ طاغية باغية لا يتذوق معاني العطف والإشفاق.

وهل عرف الناس قلباً أقسى من قلب المتنبي، المتنبي الثائر على الناس والزمان؟

يجب أن يُفصل نهائياً في هذه القضية، فأدب المتنبي من صور اليأس العصوف، وليس من صور الأمل العطوف، وهو لذلك خليق بأن ننظر إليه بحذر واحتراس.

حظ المتنبي من الشعر الوجداني حظ ضعيف، فما سبب ذلك؟

يرجع السبب إلى أن الدنيا في عين المتنبي لم تكن إلا منادح انتهاب واصطياد، والنهب والصيد يوجبان أن يبكر الرجل إلى المفاوز والآجام وهو في درع من المكر، ولثام من الدهاء.

زار المتنبي مصر وأقام فيها سنوات، فماذا رأى في مصر، وكانت لذلك العهد ما تزال عامرة بما ترك الفراعين من غرائب الفنون؟ أين بشاشة الحقول المصرية في شعر المتنبي؟

لم ير المتنبي في مصر غير وجهين اثنين: وجه الفقيه المرائي، ثم وجه النديم الخَتُول، لأن ما كان يطلبه المتنبي كانت المقادير حصرته في أيدي الفقهاء والندماء.

وقد حقد المتنبي على مصر أبشع الحقد، لأنه لم يرها إلا في وجه كافور ومن يحيط بكافور. ولو كانت الشاعرية هي التي تسيطر على أهواء المتنبي لوجد لمصر مذاقاً غير ذلك المذاق، ولكان من المأمول أن تنسيه مرابعها الأواهل وحشة الغربة والانفراد، ولكن المتنبي كان طالب ملك، أستغفر الحق، بل كان يطلب (ضَيْعة) فلم يظفر بغير الضَّياع!

ورحيل المتنبي عن مصر رحيل بغيض، فقد ثار على مصر في البادية لا في الحاضرة، وذلك يشهد بأنه لم يفكر جديَّا في تأليب الجمهور المصري على ذلك (الأستاذ)!

ماذا أريد أن أقول؟

ما يهمني النص على ما وقع فيه المتنبي من خطأ وصواب، وإنما يهمني القول بأن حرص المتنبي على طلب الملك هو الذي خلق تلك الشاعرية الطريفة، الشاعرية التي لا تعرف الهيام بالأزهار والرياحين، وإنما تعرف الغرام بالصوالج والتيجان، فتقضي الدهر في

<<  <  ج:
ص:  >  >>