ويتحدث ابن عبد ربه في مقدمته عن (تأليف الاختيار وحسن الاختصار)؛ فأي معنى لما يذكر من حسن الاختصار في هذا المقام؟ أتراه يعني حسن الاختصار في المجموع، أو في كل خبر على حدته؟ أعني: هل كان ابن عبد ربه يروي الخبر بحروفه كما سمعه أو قرأه من غير اختصار فيه، وإنما كان يختصر في كل جملة ما يروي من الأخبار بحيث لا يثبت منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، أو كان يختصر الخبر نفسه فيحذف من حروفه ما يحذف وينقص ما ينقص ذهاباً إلى الاقتصاد في التعبير عن المعنى الذي ينقله؟. . .
أقول: هذا كتاب العقد بين أيدينا، وقد نظرت فيه طويلاً، وعاودت النظر مرات؛ فبدا لي من طول المراجعة أمر لا بد من التنبيه إليه: ذلك أن بعض دواعي ابن عبد ربه في تبويب كتابه، كانت تقتضيه أن يثبت الخبر مرات في أبواب متفرقة، لصلاحيته للدلالة في أكثر من موضوع واحد؛ فإذا أنت حققت النظر في هذه الأخبار المكررة فقلَّ أن تجد منها خبراً مروياً في موضعين بحروفه على وجه واحد؛ فثمة الحذف والزيادة والإبدال؛ وليس هناك من سبب - فيما نرى - لهذا الاختلاف في رواية خبر واحد في كتاب واحد لمؤلف واحد إلا أن يكون المؤلف يملك من حرية التصرف في رواية هذه الأخبار ما يسمح له أن يرويها بلغته، ويؤديها على الوجه البياني الذي يراه؛ فهو يرويها بالحذف والاختصار حيناً، وبالبسط والزيادة حيناً آخر؛. . . فهل كان ذلك بعض ما يعنيه ابن عبد ربه بـ (حسن الاختصار)؟. . .
. . . ولقد يكون هذا الخلاف في رواية خبر واحد نتيجة لازمة لاختلاف الرواة الذين ينقل عنهم، أو نتيجة لازمة لاختلاف الكتب التي ينظر فيها ويقتبس منها؛ ولكن كيف يكون التعليل حين يكون راوي الخبر في الموضعين واحداً، والكتاب المنقول عنه واحداً كذلك؟. . .
أظن أنه يحق لي بإزاء مثل ذلك أن أزعم بأن ابن عبد ربه لم يكن ينظر إلى شروط الرواية تلك النظرة المتحرجة التي تفرض على مثله في هذا المقام أن يلزم جانب الحرص في المحافظة على نص ما يرويه بحروفه، وأنه كان يجيز لنفسه أن يتصرف في رواية بعض الأخبار تصرفاً يؤدي بها معناها دون حروفها؛ وأحسب ذلك يصلح تعليلاً لانفراد ابن عبد ربه في بعض ما ورد في كتابه من نصوص تخالف ما أجمع عليه رواتها في مختلف