للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ومصر - كنانة الله في أرضه - أشد أمم الأرض بلا استثناء إصابة بهذه الويلات!

فأين ما كان في فرنسا من تشعب وتشعث مما في مصر؟ وأين ما كان هناك من فردية مقيتة وأثرة بغيضة مما في كنانة الله؟ وأين ما كان في وطن نابليون من رفاهة مريضة وترف ذليل، وفساد في الخلق والضمير، مما يجري هنا في وطن رمسيس؟

لا يحاول أحد أن يكتم عنا ما نحسه في أعماقنا، ولا يجادل أحد فيما تلمسه أيدينا وتراه عيوننا، ولا يفهم أحد أنه من الخير لنا أن نعصب عيوننا فلا نرى سوءاتنا

إن في مصر من (ويلات السلم) ما لا يتصوره أي أجنبي عنها؛ وفرنسا المنحلة المريضة الغارقة في الشهوات كانت قديسة طهوراً بالقياس إلينا. . . كانت أمة ولسنا نحن أمة، وهذا أخصر ما يصورنا من ألفاظ

في مصر ما لا يحفظ التاريخ من ... فحش يعج بها وفحش يكتم

كما قلت في قصيدة منذ سنوات

وليس هذا (الفحش) بقاصر على ما ينصرف الذهن إليه أول وهلة، ولكنه فحش يشمل كل شيء. يشمل الضمائر والأسرار، ويشمل التصرف الشخصي اليومي للألوف والملايين

في مصر فحش من الفقر من الغنى، فحش من الحرمان وفحش من المتاع. وفيها فحش من النعومة التافهة يقابله فحش من الخشونة العارمة

وفي مصر مشاحنات ومنازعات، ولكنها ليست على شأن جليل ولا غرض عظيم. وفي مصر أثرة عمياء صغيرة المطامع قريبة الآفاق لا تعدو لذة كلذة الحشرات والهوام

ومنشأ هذه كله طول عهدنا بالسلم الرخيصة والدعة المريضة والأمان التافه. كل ذلك عبث بأعصابنا فأوهنها وبآمالنا فقرب مداها، وبهمومنا فأصغر قيمتها، والخطر الذي يثير الأعصاب، وينبه الحواس، ويكبر الهمم، ويغذي الطموح قد حرمتنا الأقدار إياه، فمنحتنا طبيعة سمحة لا تحوجنا للجهد ولا تثير فينا الجهاد، وسلبتنا نعمة الاستقلال أحقاباً متطاولة فلم نضطلع من عهد طويل بأعباء الاستقلال

علم الله لقد كانت أكبر أمنية لي أن أعيش حتى أرى مصر تخوض معركة. معركة واحدة، تطهرها كما تطهر النار الخبث، وتبعث فيها الرجولة الكامنة والتضامن الوطيد، وتشفيها من رخاوة السلم وانحلال الدعة ونعومة الفراش!

<<  <  ج:
ص:  >  >>