لنفاسة طبع الكتاب ونفاسة موضوعه، وقلة الراغبين في قراءة هذه الموضوعات.
ولكن الجنيه ثمن مرهق للشباب الخالي من العمل، وكنت يومئذ خالياً من العمل مريضاً أستشفي ببلدتي أسوان وأشعر بما يشعر به المريض الخالي اليدين من تكاليف العلاج.
فكتبت إلى الدكتور ما فحواه:(إني أعلم أنك تدعو إلى الاشتراكية الصالحة التي تتجنب الغلواء، ومعنى ذلك أنك تأبى على الأغنياء أن يحتكروا موارد المال، فما بالك الآن تريد أن يحتكروا موارد العلم والمال معاً، وهل تحسب أن أحداً من غير الأغنياء يقوى على شراء كتاب بجنيه؟)
فما هو إلا أن وصل الخطاب إلى الدكتور ووصلت الصحف اليومية إلى أسوان حتى قرأت فيها أن الدكتور شميلاً قد أهدى مائة نسخة من مجموعته إلى الأدباء والطلاب، ولم يمض يوم أو يومان حتى جاءني الجزء الأول ومعه خطاب منه يشبه الاعتذار لما فاته من ذكر هذه الحقيقة بغير تذكير، ويشبه الشكر على أنني قد نبهته إلى ما كان خليقاً أن يتنبه إليه!
هذه قصة عارضة تلخص مناقب هذا الرجل الحر الصريح الشريف أوفى تلخيص.
فهو عالم يحب العلم والتعليم، ويعمل بما يقول، ويؤمن بالحجة المقنعة ولو كانت فيها خسارة عليه، ثم يبادر إلى العمل بما يقتضيه ذلك الإيمان، وليست مائة جنيه بالخسارة الهينة على رجل محدود الموارد كانوا يحاربونه في رزقه وفي طبه وفي مؤلفاته وإن كان كسب الألوف ميسوراً له لو أنه نسي أمانة العلم وانصرف إلى طلب الثراء من حيث يطلبه أصحاب الأقلام.
أخذت المجموعة كلها من جديد، وأخذت معها الرواية التي كنت أتوق إلى مطالعتها فإذا العجب فيها أعجب من هذه المصادفة، لأنها نبوءة صدقت في الحرب الماضية قبل انتهائها بأكثر من ثلاث سنوات، ولو نشرها ناشر على أنها مما يقال في الحرب الحاضرة لما احتاج في إعادة نشرها إلى تبديل كثير.
قال بلسان أحد أبطال الرواية وهو المدعي العام الذي يشرح تهمة الإمبراطور أمام المحكمة الدولية:(إنه لغريب جداً أن أمة كالأمة الألمانية حاصلة على قسط وافر من العلم تخضع خضوعاً أعمى لنظام إمبراطورية كنظامها عريق في الأثرة والاستبداد. وأغرب من ذلك دعواها وهي في رق هذا الحكم أنها ذات (كلتور) يجعل تربيتها أرقى من تربية سائر الأمم