وطعامه، وهذا هارب ضنين بنفسه قد جبهته سيوفهم وتلقت جبينه، وهذا أخ يرى أخاه صريعاً قد عفَّر التراب خده بين كرام غيره، معفَّرة خدودهم. ثم يقدم إلينا صورة من تلكم الفتيات الأبكار على خاتم الله قد فضحهم الزنج وفضّوهن حهرة بغير اكتتام. ثم ساقوهن إلى السبي يفرقونهن بينهم ويقتسموهن مماليك وكنّ من قبل يملكن الإماء والخدام.
ثم يعود بعد إبراز هذه الصورة القوية من السفك والقتل والعدوان إلى شعوره النفسي يوحي به فيقول:
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أضرَم القلبَ أيما إضرام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أوجعتني مرارة الأرغام
ثم يعرج إلى ذكر صور مجملة بعض الأجمال عن بيع السبايا وتخريب البيوت البارة كانت مأوى الضعاف والأيتام. ودخول القصور العامرة كانت من قبل صعبة المرام. ثم يقدم لنا بعد ذلك صورة كلها حياة وكلها حركة وكلها دقة ووضوح وهي قوية غاية القوة عن مدينة البصرة وكيف كان زحام الخلق فيها وعماد أسواقها وتلك الفلك التي تسير منها وإليها بالتجارة والناس، وتلك القصور ذوات الأحكام من بنيانها، وكيف استحال هذا كله - بفتنة الزنج - إلى خراب وصمت لا يرى فيه غير أيد وأرجل مقطوعة ورؤوس مهشمة ووجوه دامية بين الخرائب تسفي عليها الرياح:
عرَّجا صاحبّي بالبصرة الزه ... راء تعريج مدنف ذي سقام
فاسألها - ولا جواب لديها ... لسؤال - ومن لها بكلام. . .؟
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها؟ ... أين ذاك البنيان ذو الأحكام؟
بدلت تلكم القصور تلالاً ... من رماد ومن تراب ركام
سلط البثق والحريق عليها ... فتداعت أركانها بانهدام
وخلت من حلولها، فهي قفز ... لا ترى اللعين بين تلك الآكام
غير أيد وأرجل بائنات ... نبذت، بينهن أفلاقُ هام
ووجوه قد رملتها دماء ... بأبي تلكم الوجوه الدوامي
وطنت بالهوان والذل قسرا ... بعد طول التبجيل والإعظام
فتراها تسقي الرياح عليها ... جاريات بهبوة وقتام