والسلم كما يشاء، ولم تجتمع أمور الأندلس في يد واحدة قادرة إلا يد عبد الرحمن الناصر ويد المنصور أبن أبي عامر. أما الناصر فقد ورث ملكا ثبته رأيه وعزمه ومضاؤه وإقدامه، وأما أبن أبي عامر فقد رفع إلى السلطان نفس طماحة وعزيمة ماضية وخلق مريم. ولم تكن هيبته في نفوس أعداء الأندلس دون هيبته في الأندلس، فقد أولع بالغزو وانتدب للجهاد فغزا خمسين غزوة في شمالي الأندلس، لم تنكس له راية، ولا بعدت عليه غاية، حتى بلغ (شنت ياقوب) في أقصى الجزيرة إلى الشمال والغرب، وما طمع أحد من المسلمين قبله أن تنال همته هذا المكان القصي. لقد صدق صاحب البيان حين قال:(ثم أنفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر: هل من مبارز؟ فلما لم يجده حمل الدهر على حكمه فانقاد له وساعده. فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها. ومن أوضح الدلائل على سعده أنه لم ينكب قط في حرب شهدها، وما توجهت قط عليه هزيمة، وما أنصرف عن موطن إلا قاهراً غالباً على كثرة ما زاول من الحروب، ومارس من الأعداء، وواجه من الأمم؛ وإنها لخاصة ما أحسبه يشركه فيها أحد من الملوك الإسلامية. ومن أعظم ما أعين به، مع قوة سعده وتمكن جنوده، سعة جوده، وكثرة بذله؛ فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان)
- ٥ -
وكان المنصور عادلاً شديداً في الحق لا تأخذه فيه محاباة ولا شفقة، ولا يعرف في إنفاذ الحق هوادة:(جاء إلى مجلسه رجل فناداه يا ناصر الحق لي مظلمة عند هذا الفتى - وأشار إلى أحد فتيانه - وقد دعوته إلى الحاكم فلم يأت. قال المنصور: اذكر مظلمتك، ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية. وقال للفتى: أنزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك. وقال لصاحب الشرطة: خذ بيد هذا الظالم الفاسق وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم ينفذ
عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق)
ولما عاد الرجل المتظلم إلى المنصور يشكره قال له:(قد انتصفت أنت فاذهب لسبيلك. وبقي انتصافي أنا ممن تهاون بمنزلتي). وعاقب الفتى وعزله
ما ثبت سلطان هذا الرجل الطماح المتسلط المقدام إلا بهذا العماد من العدل والإنصاف