للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهذا الرأي لا يقل فسادا عن الرأي الأول. فالقصة التي يستند إليها تبدو عليها علامات الاختلاق وإمارات الأساطير. هذا، إلى أن ما تقرره يتعارض مع النواميس التي تخضع لها الظواهر الاجتماعية في نشأتها وتطورها. فعهدنا بهذه الظواهر أنها لا تنشأ من حادث فردي، بل تنبعث من العقل الجمعي، وترتكز إلى اتجاهات المجتمع وعقائده ونظمه العامة. على أن قيساً هذا شهد الإسلام ومات حوالي السنة العاشرة بعد الهجرة. فلا يعقل أن يكون هو الذي قد سن نظام الوأد عقب حادث حدث لبنت كبيرة له. إذ يترتب على ذلك أن نظام الوأد لم يظهر إلا قبيل الإسلام ببضع سنين؛ مع أنه من الثابت أنه سابق لبعثة الرسول بعهد طويل، وأنه كان على وشك الانقراض قبيل الإسلام؛ وفضلا عن هذا وذاك، فإنه لم يرد في أي آية من الآيات الخاصة بالوأد إشارة ما لسبب من هذا القبيل. ولو كان هذا السبب هو الباعث الحقيقي على الوأد، لعني القرآن بإظهاره وتقبيحه وبيان ما ينطوي عليه من سخف وانحراف عن التفكير السليم. . .

وقد رأيت، بعد أن تبين لي فساد هذين المذهبين، أن خير طريق للوقوف على أسباب هذا النظام هو الرجوع إلى الآيات القرآنية التي نزلت بصدده، وربطها بما يتصل بها، والتأمل فيما عسى أن تتضمنه من إشارة ظاهرة أو خفية إلى العوامل التي دفعت إليه. وقد هداني ذلك إلى النظرية التي أعرضها فيما يلي:

كانت طائفة من عشائر العرب تلجأ إلى قتل أولادها تحت تأثير الفقر ورغبة في التخلص من تكاليف تربيتهم. وهذه الطائفة ما كانت تفرق بين ذكور الأولاد وإناثهم. وهذا هو ما تشير إليه الآية الواحدة والثلاثون من سورة الإسراء: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا)، والآية الواحدة والخمسون بعد المائة من سورة الأنعام: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. . . الآية)

وغني عن البيان أن هذا نظام آخر غير النظام الذي نحن بصدد الكلام عنه

وكانت طائفة أخرى من العشائر العربية تئد البنات من أولادها على النحو الذي شرحناه في صدد هذا المقال. ولم تكن تفعل ذلك خشية الفقر أو العار كما يزعم أصحاب المذهبين السابقين، بل كانت تفعله بدافع ديني بحت. وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن البنات رجس من

<<  <  ج:
ص:  >  >>