للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كثير من الناس، ولكني أنا لا أحسده ولا أشعر بإكباره، لأن قوته من قبيل القوى التي تحسب بعدّاد، وتقاس بمقاييس العضل والأوصال، وتخرج من نطاق الفكر والضمير

والرجل الذي يطلب السلطة ليشعر بامتيازه حين يخشاه من يخشى ويطيعه من يطيع، هو كذلك رجل محسود في رأي كثير من الناس، ولكني أنا أرثي له واستصغر همومه، وأرى أنه يشغل عقله ونفسه بالحواشي والظواهر التي تزول بزوال السلطة وتنتقل إلى غيره بانتقالها، فليست هي من أصالة الخلق ولا من حقائق الطباعة والملكات

والرجل الذي يطلب السلطة ليتقي بها السلطة هو رجل معقول مفهوم، ولكني أراه مسرفاً في طلبه إذا ترك ما خلق له وشغل حياته بالبحث عن سلاح قد يحتاج إليه وقد يستغني عنه كل الاستغناء، لأن طلب السلطة شغل شاغل لا يجتمع مع التفرغ للمتعة الفكرية والذوقية، وسبيلي الذي أوثره في هذا الصدد أن أرسم لحياتي الخاصة وحياتي الروحية حقوقاً لا أقبل المساس بها أقل مساس، فإن تركت لي تلك الحقوق فذاك، وإن اعتدى عليها معتد فيومئذ أرجع إلى سلاحي فلا أدعه حتى أدع ذلك المعتدي نادماً على ما جناه

أما طلب السلطة للإصلاح فله موضعان: موضع الهدم في المجتمع الذي لم يبق فيه ما يقيمه على أساس؛ ولا اختيار في هذا الموضع لأحد من الناس، لأنه إنما يفرض نفسه فرضاً على المصلحين، إما برسالة دينية أو بانقلاب يأتي في أوانه، وهو لا يأتي ولم يأت قط إلا في أعقاب الحروب والهزائم الكبار

والموضع الثاني موضع الإصلاح الحكومي وهو عمل نافع لا شك فيه، ولكنه يقتضي التفرغ له من البداية، ولا يعالج في فترة بعد فترة، ولا مناوبةً منتظمة بين الأدب والإدارة. وأكبر ما يأتي به المصلح في هذا الباب ليس بأكبر من فكرة أدبية أو ثمرة فنية يتفرغ لها الأديب جهد ما يتاح له التفرغ في بلادنا الشرقية، فإن إصلاح سنة أو سنتين لن يكون في نهايته غير إصلاح مرحلة قصيرة من مراحل الحياة البشرية في أمة واحدة، ولكن الثمرة الفنية حقيقة خالدة لذاتها ولو لم يكتب لها البقاء

وقد ذكر كاتب الرسالة اسم ديزرائيلي نموذجاً للأدباء والكتاب الذين يريدون أن يعملوا ما يقولون؛ فهل لكاتب الرسالة أن يذكر لنا ما هي الفكرة الأدبية التي عملها ديزرائيلي في أيام حكمه؟ وهل له أن يذكر لنا مثلاً آخر من الأدباء والكتاب الذين يعملون أدبهم في مناصب

<<  <  ج:
ص:  >  >>