للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وأطرق الفتى يتسمَّع دويّ صوت الشيخ، وإن الكلمات ليتردد صداها في مسمعيه فيخترق شغاف قلبه فيلقى السَّلم إلى أستاذه رويداً رويداً. ولا ضير فهو يحس مسكنة الرجل وانكساره

ورأى شاس الخديعة تنطلي على الشاب حين أسلس وانقاد فاندفع يحكم العقدة، فأقبل على الفتى يقول: (ياعجباً، لقد عرفتك أيّداً جلداً إذا حزب الأمر أو أعضلت المسألة، فما بالك الآن حيران لا تتماسك؟ لعل خشية القوم قد تسربت إلى قلبك فأنخلع فؤادك رهبة وجزعاً!). فأجاب الفتى في سرعة: (كلا، كلا يا سيدي، ولكني لا أجد الرأي)

فقال الشيخ في هدوء: (الرأي عندي أن تسعى فنفرق كلمتهم ونصدع ألفتهم فتنكسر شوكتهم وتنهد قوتهم، ونظهر نحن عليهم) قال الفتى: (وكيف؟) فأجابه الشيخ: (تعمد أنت إلى القوم وهم في مجلسهم يتسامرون فتذكرهم بأيام الجاهلية وتبعث في نفوسهم ذكرى ضغائن شغلتهم عنها أعباء الدين الجديد، وتنشر على أعينهم حديث يوم بعاث وما كان قبله، وتنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من أشعار. . . هذه، يا بني، هي الشرارة الأولى؛ ولا عجب إن هي سعرّت بينهم نار الحرب التي انطفأت منذ حين

وراح الفتى يندس بين جماعة من الأنصار يصحبه الشيطان، وأخذ يحمل القوم رويداً رويداً على ذكر أيام خلت، ويقص حادثات تبعث ميت الحقد، وتثير دفائن الغيظ، ثم هو يتلوى في حديثه ليذكر غلبة الأوس واستخذاء الخزرج. . .

ونفذ الفتى من ثغرات ضيقة إلى قرار القلوب، فتغلغل الحديث في نفوس القوم، وتشعب الكلام فنوناً، واندفع كل حزب يفاخر صاحبه ويباهيه، ويتطاول عليه ويكاثره. . . ثم شرى الأمر بين أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحرث من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتواثبا على الرُّكَب يريد واحد أن يبطش بصاحبه، وتناثرت بينهما ألفاظ طمست على صفاء كان بينهما منذ ساعة؛ وانحازت طائفة من الأوس إلى صاحبهم، وأعان الخزرج محاميهم، وانفرط العقد، ودبّ دبيب الشحناء، وبدت البغضاء على وجوه القوم، وطغت عليهم طبائع الجاهلية التي تنشئوا عليها وعاشت في دمائهم سنوات وسنوات؛ فقال واحد لصاحبه: (إن شئتم رددناها الآن جَذَعةً). فغضب الفريقان جميعاً وقالوا: (قد فعلنا، موعدكم الظاهرة). ونفر القوم وهم ينادون: السلاح السلاح!

<<  <  ج:
ص:  >  >>