وأن يكون ذلك الشعور من نعمة أو بلاء، والألم في هذه الحالة دليل قوة كاللذة سواء، ومبعثه امتلاء النفس بعاطفة ملحة، لإفراغها من الطاقة الدافعة
ولن يكون الغناء في أية حالة من الحالات دليل ضعف وانحسار في الوجدان، ولن ينبعث حين ينطوي المرء على نفسه وتفرغ الطاقة الدافعة في شعوره، فهذه الحالة حين توجد تبعث على الصمت لا على التعبير، وتنزع إلى الانزواء لا إلى الظهور
فالذين يغنون فينضح الضعف في أغانيهم، ويسيل التخاذل في نبراتهم، والتهالك في ألحانهم، هم جماعة من الممثلين الزائفين لا يليق بأمة أن تطمئن إلى قيامهم بأرفع وظائفها وهو التعبير الفني والقيادة الروحية والتطلع إلى الكمال
والحب المظلوم مع المؤلفين والملحنين والمطربين، هو الآخر دليل فيض في القوة لا دليل انحسار. فلن يحب المحب وهو مضعوف هزيل، ولن يبحث عن الحب إلا حين تفيض قواه، ويطلب لهذا الفيض إنساناً آخر يعاطفه ويكافئه؛ حتى الحيوان - لا يحب! - إلا حين تصح بنيته وتفيض غريزته فيطلب الأنثى، ويجهر بالحب على طريقة الحيوان!
وقد يبعث الحب الألم في بعض الأحيان، ولكنه لن يبعث الضعف في حالة من حالاته، ولا التميع في صورة من صوره؛ إلا أن يكون هذا الحب (السوقي) المصطنع الذي يفيض به الغناء في هذه الأيام
إن حرقات الحب في حرمانه غريزة قوية كلذائذه في متاعه، وما كل هذه التكسرات و (المياعات) إلا دنس يلطخ وجه هذا الحب العزيز الكريم، ويشوه جبينه الطاهر النبيل، وما هو إلا مسخ للطبائع وتحريف للغرائز، أوقح ما فيه أنه يتزيا بزي الفنون
ومن المؤلم ألا يكون الغناء وحده هو الذي يقارف هذه الجريمة، بل يشاركه الشعر فيها؛ فإذا الحب بكاء ودموع ولا شيء غير البكاء والدموع. ولن يصاب الحب بالمسخ فوق هذا المصاب، ولن يبلي هذا البلاء إلا حين تشيخ الأمم ويصيبها الانحلال. ومن هنا نحن نشتد في مقاومته خيفة أن يصدق نذيرة في شعب يهم بالنهوض!
إن للحب ألواناً وأنماطاً، وإن له صعوداً وهبوطاً، وإقبالاً وأدباراً، ولذة وألماً، وفيه رجاء وقنوط، ويقين وشكوك، وجموح وانحسار، وقلق واطمئنان؛ وهو في كل حالة من حالاته يثير أحاسيس ويلهم تعبيرات؛ فأين هذا الغنى كله من ذلك الفقر المدقع في عواطف الشعر