إذاً فمن الخير للأمم أن يتولى سياستها رجال الفكر وعشاق المثل العليا وأن يطبقوا حياتها العملية على أفكارهم النظرية السليمة
ولكن هل من الخير لرجال الفكر أنفسهم أن يوسد إليهم أمر الناس وتدبير سياستهم ومعايشتهم؟ إن لذة الفكر المجرد والهدوء الذي يغمر عالمه والأنس به والأحلام فيه والانقطاع إليه شئ عظيم قد يفضله كثير من المفكرين على الاشتغال بصغائر الحياة العملية ومضايقات سياسة الناس وتدبير أمورهم، ولو كان مع هذا جاه ومال وسلطان وقوة وشهرة
بل إن أكثر الذين أخلصوا للفكر والفن يضيقون ذرعاً بحياة الناس العملية ويخلقون لهم جواً خاصاً بهم يعيشون فيه وحدهم ولا يعدلون به سواه. ولذلك قال الجاحظ ما معناه:(ما لذة الأسد بلطع الدم بأعظم من لذة العالم بعلمه). وقال أحد الصوفية:(لو علم الملوك ما عندنا من اللذات لقاتلونا عليها)
وقد صور (جبران خليل جبران) وجدانيْ رجل الأدب ورجل النشب ونَظْريتَيهما للحياة حين قال: (تبادل غني وأديب النشب والأدب، فرأى الأديب ما بيده حفنة من تراب، ورأي الغنى ما برأسه نفخة من ضباب. . .)
فهل يلذ المفكرين أن ينزلوا عن أبراجهم العاجية المليئة بصور الكمال والجمال والهدوء إلى دنيا الواقع المليئة بالصخب والتشويش والمتاعب؟
وهل من الخير للحياة أن يظل رجال الفكر في نظرياتهم وأحلامهم يتصيدونها من آفاق بعيدة ويؤلفون صورها ويدمنون ذلك وينقطعون إليه، حتى يكثروا أمام الناس صور الكمال، وأن يتركوا للملوك والساسة العمليين أن يأخذوا منها الجانب الذي يروقهم ويحلو لهم تطبيقه في أساليب حكمهم؟ أم أن من الخير للحياة أن يتولى رجال الفكر بأنفسهم تنفيذ ما فكروا فيه ووفقوا إليه ولو قطعهم ذلك عن إنتاج الأفكار الكثيرة الرائعة؟
وهل من الخير للرجل أن يخلد ويذكره التاريخ على أنه مفكر أو فنان أو أن يذكره على أنه حاكم سديد مصلح؟
إن النتاج العلمي والفني قد يبقى كما هو دائماً في الكتب والدواوين والآثار. . . يراه الناس