أسرار الطبيعة. فهؤلاء يجب أن يتفرغوا ويعيشوا في عالمهم وحده إلا إذا كانت لهم قدرة على الجمع بين حياة الحكم وحياة هذا اللون من العلم
أما الذين يفكرون في النظريات الأدبية ويدرسون الاجتماع ويضعون فلسفته فيجب أن يختار منهم من يستطيع الاضطلاع بأعباء الحكم وتطبيق النظريات على الواقع
ويجب أن يعلموا أنه لا فائدة من أن يضعوا كثيراً من النظريات والأفكار ويتركوها دفينة بين دفات الكتب من غير تطبيق؛ وإن المفكر الناجح هو من يصنع فكرة ثم يصنع بها أمة أو جماعة
ويخيل أليّ أن كل المجهودات الفكرية التي ليست داخلة في منطقة العمل هي هوى ذاتي وترف عقلي وأقرب إلى الوجدانيات كالموسيقى والألحان
إننا لا نمسك ديوان شعر أو نسمع ألحان الموسيقى أو نقرأ قصص التاريخ إلا إذا فرغنا من أعمالنا المعاشية وأقبلنا على أوقات الفراغ نستمتع بها، ولن يقبل على هذه الألوان في كل وقته إلا هاو مستغرق أو محترف مرتزق
وقد يكون من العجيب عند بعض الناس أن يعلموا أنني أعتقد أنه يجب للإصلاح السريع في مصر أن نضحي بعيشة الترف العقلي مدة موقوتة تغلق فيها جميع المعاهد العالية مدة سنة أو سنتين نحشد جميع أساتذتها وطلابها للخدمة العامة والاشتراك في حركات الإصلاح البدائي ونترك التفرغ للبحوث الفكرية والهوايات الفنية ونتفرغ لتدبير أمور الجمهرة الجاهلة من هذه الأمة حتى يعلو مستواها ويتقارب مع مستويات الأمم التي سبقتنا في التعليم والإصلاح
قد يبدو هذا غريباً عجيباً، ولكن هو ما أعتقده. لأني أرى وجود المريض جداً بجانب الصحيح جداً يفقد بهجة الحياة لدي الصحيح، ويؤلم المريض بالحسد والنظر المحروم؛ وأرى أن الأولى للعالم والمفكر ألا يوغل في علمه وفكره، ويترك غيره جهلاء لا يفهمونه ولا يقدرونه
ووجود عدد من جهابذة العلماء عندنا بجانب ملايين الجهلة التعساء المرضى هو بذاته كوجود الميادين والشوارع الجميلة في المدن المعدودة في مصر بجانب آلاف القرى التي تقام من الطين والسرجين والأحطاب والمستنقعات. . .