للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وانخفاضاً؛ فهذه تصاحب السياق الصوتي الأصلي وتزينه بتلونها الملائم، إذ تجري معه مؤتلفة، كصورة الظل مع صاحبه، فتزيده جمالاً وروعة، فهي مصاحبة أو تصوير. فما اللحن في الحقيقة إلا تعبير بدلالات صوتية مدلولاتها خوالج وخواطر وأخيلة جالت في نفس ملحنه، أو استعارتها نفسه من كلام لغيره، من فحواه ودقائق معانيه وما تصف. ومن هنا نظروا إلى اللحن الذي يعبَّر هذا التعبير، ويصور هذا التصوير، نظرهم إلى الكتابة فقالوا: الإنشاء الموسيقي، وميزوا بين إنشاء موسيقار وإنشاء موسيقار آخر، وعرفوا لكل طابعه الخاص

الفهيم المستمع إلى موسيقى جيدة، لا يصاحبها غناء، تصل ألحانها إلى سمعه غير مقيدة دلالاتها الصوتية، أي معانيها، بدلالات لفظية. ولذا تجد نفسه بعض الحرية في فهم هذه الألحان الموسيقية التي تحرك في وجدانه خوالج وأحاسيس، وتثير تداعي الصور في مخيلته والخواطر في ذهنه، فتذهب روحه مذاهبها في تأويل الدلالات الصوتية؛ فإذا سكنت إليها طرب ووجد الأريحية، وإذا هو آنس منها ما يعيب اللحن أو العزف أو لم يفهمها، أو لم توافق طبعه، فإنه لا تأنس إليها روحه. وعلى قدر موافقتها وسلامتها أو عيوبها يكون الاكتراث لها، أو الاستكراه والنفور منها

أما الغناء الذي تصاحبه الموسيقى ففيه الدلالة اللفظية تَفرض تأدية معان معينة، هي معاني الكلام المغنَّى، على الدلالتين الصوتيتين: دلالة الغناء ودلالة العزف الموسيقي معاً؛ فلا بد من المطابقة والائتلاف التام بين هذه الدلالات الثلاث حتى لا يُعكر نبوُّ إحداها ونشاز الأخرى صفاء اللحن ونقاء الغناء والموسيقى جميعاً

والكلام الذي يغنِّيه المغنِّي بمصاحبة الموسيقى يصل مع صوتيهما إلى آذان المصغين البصيرين، ويتعيّن معناه اللفظي بيّناً في أذهانهم فيقيد حرية نفوسهم كل التقييد، في فهم تينك الدلالتين الصوتيتين فهماً يغايره، وبذلك يمنعهم من تأويلهما تأويلاً يجعل لهما وقعاً عندهم؛ فإذا لم يكن الائتلاف تاماً بين معاني كلام الأغنية ومعاني لحنها وغنائها ومعاني موسيقاها حال هذا العيب الشنيع دون الطرب، وربما سبب الاستكراه والنفور ولو جاد العزف لآلي وصوت المغني

والمستمع السليم الذوق قد لا يحلل بعقله ما يسمع من الغناء والموسيقى مثل هذا التحليل،

<<  <  ج:
ص:  >  >>