الطبيب بمأمن من الأمراض، ومع ذلك أحس بمرارة وسخط وحنق وساءه أن يفتضح مرضه الغادر في أثناء عودته من زورة مريض. أما كان الأجمل أن يجزي غير هذا الجزاء. . . وقر في نفسه أن العدوى انتقلت إليه في أثناء قيامه بواجبه في المستشفى بالرغم من حذره ويقظته فتضاعف سخطه وحنقه، وأسى على حياته التي لم يتح له التمتع بها؛ وكان يدفع إلى فكرة الموت دفعاً عنيفاً، ويقسر على الاستغراق فيها بقوة شيطانية. . . وحدثه قلبه الرعديد بأن نهايته حمت، فعطف رأسه إلى المرآة وأدام النظر إلى وجهه، فخيل إليه أنه محتقن بالدم الفاسد؛ ولكن كان ما يزال محتفظاً بنضارة الحياة وأثر الصحة الآخذة في الانحلال، فألقى عليه نظرة آسيفة حزينة، كأنما يودع آخر صورة للحياة والصحة عالقة به. . . ثم أدار رأسه قانطاً، وأسلمه القنوط إلى الاستسلام، وأسلمه الاستسلام إلى الاستهانة، ولاذ بها من مخاوفه، وقال لنفسه علام الخوف والذعر؟ الموت آت لا ريب فيه، إن لم يكن اليوم فغداً. . . هو النهاية المحتومة على أية حال لمهزلة الحياة. . . وماذا يضيره أن يقصر دوره في هذه المهزلة؟ فلعل في قصره اختزالاً لآلام مروعة. على أن تعزيه لم يدم طويلاً. . . وألحت على قلبه الآلام مرة أخرى. . . فذكر آماله وأطماعه في المجد والثروة، وارتسمت على شفتيه لهذه الذكرى ابتسامة مريرة ساخرة. . . وشعر بامتعاض يفوق الوصف. . . وذكر الثلاثين قرشاً التي طرب لها فرحاً قبل حين قصير: فأزداد امتعاضه، ولعن رزقه الذي يناله من أيد شحيحة، لا تفرط فيه حتى يهزلها المرض، فتراخى عن الضن به، ولعن النظام الذي يجعل سعادة القوم منوطة ببأساء آخرين. . . يالها من مهنة مخيفة، يستمد رجالها حياتهم من النفوس المريضة كالجراثيم سواء بسواء. . . وسخر في ذعره وتشاؤمه من الإنسانية والتضحية والرحمة، تلك الألفاظ الصماء التي حفظها عن ظهر قلب ولم تختلج له في شعور قط. . . فهو لم يشمَر أبداً لغير المجد والثروة، ولم يتصور ساعة أنه يبلغهما بغير معونة المرض. . . فعبده وهو لا يدري، ونصبه آلهاً يقدم له القرابين البشرية كبعل القديم، حتى سقط هو أخيراً قرباناً له، فأي حياة هذه؟. . . وذكر أيضاً في هذيانه وتشاؤمه قروياً بسيطاً عرض له في العيادة الخارجية لقصر العيني، وكان يريد أن يكشف على حلقه، فأمره أن يفتح فمه. . . وكان كلما أدنى منه المجهر يرتجف الرجل الساذج ويغلق فمه. . . وتكرر ذلك منه حتى اشتد به