للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحكومة، ولن يقعد عن طلب التسلط في الحكومة إلا لأنه عاجز عنه، فهو بعيد كل البعد عن دخائل العظمة الفكرية التي هي عظمة لا شك فيها وإن لم يكن لها في الحكم سلطان.

لكن العجب في هذا أن الزهو بالعقول شائع بين جمهرة الناس، فكيف يفوت الأديب صاحب الخطاب أن يفطن إلى زهو العقول العالية التي تشعر بما لها من الرجحان؟

يقولون في أمثالنا الدارجة أن الخلق غضبوا عند قسمة الأرزاق فأرضاهم القدر بقسمة العقول، فما منهم إلا راض عن عقله وإن سخف وإن ضاق.

وتعليل ذلك قريب، فإن الأرزاق تنتقل من مالك إلى مالك، فللطمع فيها معنى مفهوم؛ أما العقول فلا تنتقل من أصحابها إلى غير أصحابها، فليس للطمع فيها معنى غير الإقرار بالقصور، والحرمان من لذة الغرور.

ومغزى المثل كما يقولون أن رضى الإنسان بعقله سهل مألوف في جميع الطبائع البشرية، فكيف بالعقل الذي يعلم ما عنده وما عند غيره علماً ليس بالدعوى ولا بالغرور؟ أليس خليقاً بامتيازه المرضى عنه أن يغنيه عن طلب الامتياز من طريق ولاية الأحكام؟

قلنا في كتابنا رجعة أبى العلاء: (إن أبا العلاء كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها. فلما الملك وأما الرهبانية ولا توسط عنده بين الأمرين. فلا يحسبن أحد أن فكرة الملك عارضة في ذهنه كما يعرض في الخاطر في خلد للشاعر، فإن للمجد الدنيوي لنزعة مكبوتة في قرارة ضميره يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه في جمحات الأهواء وفلتات اللسان. فسرعان ما يثب إليها كلما عرضت لها لمحة ظهور)

وقد ظن الأديب صاحب الخطاب أن ما قررناه هناك شذوذ مما نقرره في كلامنا عن الفكر والسلطة، وما به في الحقيقة من شذوذ؛ فالحنين إلى السيطرة في نفس أبى العلاء إنما هو تعبير عن جانب الحرمان من تلك النفس وليس بالتعبير عن جانب الامتياز والرجحان.

وليس الوجه كما فهم الأديب أن أبا العلاء كان يزداد طلباً للسلطان لو أبصر وملك القوة الجسدية، ولكن الوجه أنه كان يقلع عن هذا الطلب لو زال عنه شعور الحرمان الذي داخله من كبريائه مع فقد بصره ووهن جسده. فيغلب عليه جانب الثقة والامتياز.

وأي عجب في تداخل النزعات واشتباكها في جميع النفوس الآدمية؟ ألا يوجد بين ذوي السلطان من يحب أن يشتهر بالكتابة فينتحل ما يكتبه له الكاتبون وليس هو بأديب؟ أفمن

<<  <  ج:
ص:  >  >>