إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا. فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع من الحوادث والتجارب دون أن (نأكلها) كما أكلها الذين من قبلنا
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء؛ وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام؛ وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك؛ وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين
والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء؛ فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها لأنها مختلفة المنحى والنتيجة. ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات. ويسافر إلى القطر الواحد مرات ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها ولا تنسخها التي تليها
وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة
والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات، لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه. فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلقٍّ ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال
وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية؛ أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة ما يراد منها وما لا يراد
قيل أن السعيد من وعظ بغيره. ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه (شعوراً) غير أصيل فيه! أما إن اتعظ أصيلاً في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه. فليس هو بعالة على تجربة