قال المنصور: والمال الفقيد حبيب أيضاً! وابتسم، ففز سعيد وابتأس!
قال المنصور: لا تبتئس، فعسى أن يرجع إليك مالك ثم دعا بقارورة طيب كان يهتم به ويختص، وقال: يا سعيد هذا طيب يتفاءل به، فخذ منه شيئاً عسى أن يكون جلاء همك وصقال نفسك، واستبشر بمسيسه كأنه حظ عصر لك في مدهن! وتمتع من شميمه كأنه من أرواح الجنة!
فأخذه سعيد وقبله كأنه تميمة سعادة، واصطانه كأنه مفتاح خزانة؛ ثم سلم على الخليفة، وانقلب إلى أهله وقد انتشر الأمل على أصغريه، كما انتشر الطيب على عطفيه. فلما دخل على آمراته قالت: أني أشم عطراً يتضوع منك. قال: ذاك عطر وهبه لي أمير المؤمنين، وإني واهب لك منه شيئاً عسى أن يكون لبيتنا فألاً ميمونا. فابتسمت شاكرة للزوج الواهب، ثم انصرفت مفكرة في العطر الموهوب
دعا المنصور أربعة رجال من ثقاته وأراهم طيبه، وأشممهم منه، ثم قال لهم: أٌقعدوا على أبواب المدينة، فمن مر بكم وعليه شيء من هذا الطيب فأتوني به. فذهبوا حيث أمرهم الخليفة، وجعلوا يتربصون بمن يمر بهم أريج الطيب، حتى ضم الليل شملته السوداء ومضى، وبعث الصبح في أطماره؛ فرقعت الأرض بالأقدام والظلال، وهم يترقبون ويتشممون، كأنهم من كلاب الصيد في توقع الفريسة، وإذا رجل قد توهج منه الطيب يجتاز أحد الأبواب، فانقض عليه أحدهم انقضاض عتاق الطير؛ فاهتز اهتزاز فراخ الصيد، وغيمت الدهشة في رأسه، فمادت نفسه، وحارت عينه، وسأل فلم يجد جواباً، ونظر فلم ير مناصاً، وسيق تائه المساق حتى قدم إلى الخليفة، فتقدم، ثم سلم تسليم مروع لا يدري من أين روعه؟
قال المنصور: ما الذي أقدمك؟
فنظر الرجل إلى الذي ساقه وقال: الجواب عند هذا يا أمير المؤمنين!