ثم مد رأسه من وراء أنفه وتشمم، ثم قال: وما أطيب طيبك!. . .
قال حبيب: هو نفحة من يمنك يا أمير المؤمنين
فضحك المنصور، واستعجب حبيب من ضحكه
قال المنصور. أنى لك هذا الطيب؟
فارتد حبيب كأنه لديغ، ونظر نظرة قد تخشعت جزعاً
فتبسم المنصور، وقال: لا ترع، فما أريد بك سوءاً، وأما كان مثل هذا الطيب يفوح من سرقة بالأمس، وقد باح به جسمك اليوم، وإني أخشى أن يلصق بك ما تتهم به!
قال حبيب: يا أمير المؤمنين. . .
قال المنصور:. . . وتخفي في نفسك ما الله مبديه. . .
قال حبيب: أنا. . .
قال المنصور: وأنا أرى على وجهك مسحة براءة، وعلى يديك مسة طهارة، ولكني أمرت أن احكم بما ظهر، ولله ما بطن.
قال حبيب: ليس عندي من المال قديم ولا جديد إلا هدية أهداها إلي من لا اشك فيه
قال المنصور: ومن أهداها إليك؟
فاعتقل لسان حبيب في فمه!
قال المنصور: لقد رأيتك تدرأ عن نفسك حتى كدت تبرأ لولا غموضة تريب تلك الهدية، فهلا استكملت البراءة، ونزعت عن يديك تهمة ليست لبوساً لك! وإني موسع عليك ومخيرك: فإما أن تذكر من أهدى إليك فتجلو صفحتك ويقلب القضاء صفحته؛ وإما أن تنزل عن الهدية لنعرضها على صاحب المال فتسلم من آخر شيء يعلق به الاتهام، ويكون ذاك أغنى عن التصريح وأنفى للشك وابلغ في العذر
كاد حبيب يتكلم فيسلم، ولكن قلبه خفق فسكت، ودارت عينه، ودار من ورائها رأسه، لا يدري: أيمسك المال على بغض يبعثه اتهام الأمير! أم يتركه على حب يوحيه إهداء الحبيب؟ فإما أن يذكر مهديه المال خلاصاً فنفسه دون ذلك فداء، والفداء من سنة الحب، وما كان لفم طهره الحب أن تدنسه الوقيعة!. . . ولقد تعجب حبيب من صروف الأقدار في تصريف الأموال، فإنه ما كان ليعبأ بمال حتى يَفتن في جمعه ويُفتن بكنزه، وما تكاتفت