أن الله أرحم بالناس من أن يجعلهم لمثل هذه الحياة. . . الناس أرفع بأنفسهم من أن يعبدوا مثلها. . . أنها مرحلة لابد منها في طريق الإنسانية الشقية إلى الاستقرار والراحة واللقاء الذي لابد منه بعد الافتراق والتقلقل
ومن بين ظلمات هذه الحرب الخاطفة السريعة يلمع نور السلام البطيء الطويل. . .
ومن بين نيرانها وزلازلها وبراكينها يبدو برد الحياة وثباتها واستقرارها. . .
ومن بين قسوة القلوب فيها بقسوة الآلات والمدمرات تلوح عواطف الرحمة والحب. . .
لقد كان من نتائج الحروب الكبرى دائما ابتداء دورة زمنية بالإنسان وانقلاب في أوضاع الحياة. . . والذين عاشوا قبل الحرب العظمى الماضية وبعدها يدركون الفرق الشاسع بين الحياتين. . .
هذه السرعة التي في الحرب ستكون في السلم. . . وكما استحال سيف الحرب إلى مبضع الطب ستستحيل جميع آلات الدمار إلى آلات إنتاج وتعمير ورفاهية
ولاشك أن تشبيه الحرب بحادث المخاض والولادة تشبيه صحيح من كل وجه. . . فكل حرب تلد مولودا من الطباع والأوضاع والأفكار والآلات والمرافق. . . مولودا يجدد الحياة ويقذف في شعلتها حطبا ويسقيها زيتاً. . . ولا ضير فيما يصحب ذلك من الألم والدم والهزة والخوف؛ فكل هذه أعراض تصحب حادث الولادة في حياة الإنسان. . .
ولن تضيع سدى تلك الأرواح لتي ذهبت قرابين للمعاني السامية التي في قلوب الأمم المتحاربة. وإنما هي لبنات في البناء الخفي للوجود الإنساني. . . وأنها كلها حية تنظر إلى عراك الجماعات في عالم الظواهر كعراك ذرات تحملها الريح أو حصى يحمله ماء السيل حتى تبلغ مكانها المرصود في بناء الوجود. . .
وسواء أوضع حجر في خفاء الأساس أم رفع في علانية القمة، فالكل بناء واحد. . . وتبلغنا الآن أنباء انكسار أمة وانتصار أخرى فلا نلتفت إلى الأفراد فيها. وإنما يعلو عنوانها أو ينخفض وهي صورة موحدة ليس فيها توزيع. فتفرح كلها بالانتصار ولو باد في سبيله كثيرون، وتستاء كلها بالانهزام، ولو انتصر فيها كل فرد نصرا فرديا وأتى بأعمال البطولة المعجزة