فأحط العفاف شيخوخته بالصحة والقوة، وكان فارع الطول عريض الأكتاف، لم يشك في حياته ضعفاً، ولم يسرف على نفسه في طعام ولا شراب ولا لذة. ولم يجد عن الخطة التي اختطها لنفسه منذ أدرك. فهو يفيق سحراً والدنيا تتخطر في ثوب الفتنة الخاشعة - والخشوع الفاتن - والعالم ساكن لا يمشي في جوانبه إلا صوت المؤذن وهو يمجد الله في السحر، يتحدر من أعلى المنارة فيخالط النفوس المؤمنة فيهزها ويشجيها، يمازجه خرير الماء المتصل يصعد من نافورة الدار يمجد (هو الآخر) ربه ويسبح بحمده، (وإن من شيء إلا يسبح بحمده)، فيقف الشيخ متذوقا حلاوة الإيمان، ثم ينطلق لسانه ب (لا اله إلا الله) تخرج من قرارة فؤاده المترع باليقين، ثم ينزع ثيابه وينغمس في البركة يغتسل بالماء البارد ما ترك ذلك قط طول حياته، لا يبالي برد الشتاء ولا رطوبة الليل. وكثيراً ما كان يعمد إلى قرص الجليد الذي يغطي البركة فيكسره بيده ويغطس في الماء ثم يلبس ثيابه ويصلي ما شاء الله أن يصلي، ثم يمشي إلى المسجد فيصلي الصبح مع الجماعة في مجلس له وراء الإمام ما بدله يوماً واحداً، ويبقى مكانه يذكر الله حتى تطلع الشمس وترتفع فيركع الركعتين المأثورتين بعد هذه الجلسة، ويرجع إلى داره فيجد الفطور معداً والأسرة منتظرة، فيأكل معهم اللين الحليب والشاي والجبن أو الزبدة ولزيتون والمكدوس، ثم يغدو إلى دكانه فيجدها مفتوحة قد سبقه ابنه الأكبر إليها ففتحها ورتبها
والدكان في سوق البزازين أمام قبر البطل الخالد نور الدين زنكي، وهي عالية قد فرشت أرضها بالسجاد وصفت أثواب البز أما الجدران، ووضعت للشيخ وسادة يجلس عليها في صدر الدكان ويباشر أبناؤه البيع والشراء بسمعه وبصره، ويدفعون إليه الثمن، فإذا ركد السوق قليلا تلا الشيخ ما تيسر من القرآن أو قرأ في (دلائل الخيرات) أو تحدث إلى جار له مسن حديث التجارة، أما السياسة فلم يكن في دمشق من يفكر فيها أو يحفلها، وإنما تركها الناس للوالي والدفتردار والقاضي والخمسة أو الستة من أهل الحل والعقد، وكان هؤلاء هم الحكومة (كلها. . .) وكان الشيخ مهيباً في السوق كهيبته في المنزل، تتحاشى النسوة المستهترات الوقوف عليه، وإذا تجرأت امرأة فكشفت وجهها أمامه لترى البضاعة، كما تكشف كل مستهترة، صاح بها فأرعبها وأمرها أن تستتر وإن تلزم أبداً حدود الدين والشرف، وكانت تبلغ به الهيبة أن يعقد الشباب بينهم رهاناً، أيهم يقرع عليه بابه، ويجعلوا