وكان الشيخ قائماً بحق أهله لا يرد لهم طلبا، ولا يمنعهم حاجة يقدر عليها، ولكنه لا يلين لهم حتى يجرؤوا عليه، ولا يقصر في تأديب المسيء منهم، ولا يدفع إليهم الفلوس أصلا. وما لهم والفلوس وما في نسائه وأولاده من يخرج من الدار ليشتري شيئا؟ وما لهم ولها كل طعام أو شراب أو كسوة أو حلية بين أيديهم، وما اشتهوا منه يأتيهم؟ ولماذا تخرج المرأة من دارها، إذا كانت دارها جنة من الجنان بجمالها وحسنها، ثم أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين؟
يلبث الشيخ في دكانه مشرفاً على البيع والشراء حتى يقول الظهر:(الله أكبر)، فينهض إلى الجامع الأموي وهو متوضئ منذ الصباح، لأن الوضوء سلاح المؤمن، فيصلي فيه مع الجماعة الأولى، ثم يأخذ طريقه إلى المنزل، أو يتأخر قليلا ليكون في المنزل عندما تكون الساعة في الثامنة. أما في العصر فيصليه في مسجد الحي، ثم يجلس عند (برو العطار) فيتذاكر مع شيوخ الحي فيما دق وجل من شؤونه. . . أختلف أبو عبده مع شريكه فيجب أن تؤلف جمعية لحل الخلاف. . . والشيخ عبد الصمد في حاجة إلى قرض عشر ليرات فلتهيأ له. . . وعطا أفندي سلط ميزابه على الطريق وأذى السابلة فلينصح وليجير على رفع الأذى عن الناس. . .!
أي أن هذه الجماعة محكمة، ومجلس بلدي، وجمعية خيرية إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وكان (برو العطار) مخبر اللجنة ووكيلها الذي يعرف أهل الحي جميعاً برجالهم ونسائهم، فإذا رأى رجلاً غريبا عن الحي يحوم حول أحد المنازل سأل عنه من هو؟ وماذا يريد؟ وإذا رأى رجلا يماشي امرأة نظر لعلها ليست زوجته ولا اخته، ولم يكن في دمشق صاحب مروءة يماشي امرأته في طريق فتعرف به حيثما سارت، بل يتقدمها أو تتقدمه ويكون بينهما بعد بعيد، وإذا بنى رجل غرفة يشرف منها على نساء جاره أنبأ الشيخ وأصحابه فألزموه حده، وإن فتح امرؤ شباكاً على الجادة سدوه، لأن القوم كانوا يحرصون على التستر ويكرهون التشبه بالإفرنج، فالبيوت تبدو من الطريق كأنها مخازن للقمح لا نافذة ولا شباك، ولكنها من الداخل الفراديس والجنان. فكان الحي كله بفضل الشيخ وصحبه نقياً من الفواحش صيناً؛ أهله كأهل الدار الواحدة لا يظن أحد منهم على الآخر بجاهه ولا