لقد كان الفقيه المجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة مراراً، لاطلاعه على ما لم يكن قد اطلع عليه، أو لانكشاف حالة لم تكن قد انكشفت له، أو لمناقشة عالم أقنعته بما لم يكن مقتنعاً به؛ وقد مر على هؤلاء الرجال المفكرين قرون وقرون، وحدثت أحداث، وجدّت نظم، وتغيرت دول، وانكشف للناس من أسرار الله في الحياة ما لم يكن قد أنكشف، وظهرت مشكلات ومسائل وقضايا من طراز جديد، فكيف يلتوي عنق الأمة إلى الماضي من غير نظر إلى الحاضر، وكيف نقف والفلك المحرك دائر؟ في البلد شركات مالية تقوم على أساس من الاقتصاد خاص، وفي البلد مصارف أصبحت جزءاً مقوماً من نظام المال في الدنيا، وفي البلد ألوان من النظم والمعاملات لم تكن معروفة فيما مضى، فهل درستم نظام هذه الشركات والمصارف؟ وهل تفهمتم أصول هذه المعاملات والنظم؟ وهل تبينتم من ذلك كله ما يتفق مع التشريع الصحيح ومالا يتفق؟
في البلد مشكلات اجتماعية، وعلل تحتاج إلى الإصلاح، فهل فكرتم في أن تجدوا حلاً لهذه المشكلات ودواء لهذه العلل، ثم عرضتم ذلك عرضاً منظماً جاداً حازماً على ولاة الأمور، وأقنعتموهم بالصلاح فيما تعرضون؟
إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يقول: إن التشريع الإسلامي ليس كفيلاً بإسعاد المجتمع، وإنهاض الأمة؛ ولو قال ذلك أحد من الناس لكان ممعناً في الخطأ، جاهلاً بالحقائق، أو عدواً للإسلام جاحداً بفضله
ولكن قبل أن تنادوا بذلك، تحللوا أنتم أولاً من هذه القيود التي أثقلتكم. تحللوا من هذه الدراسات اللفظية الأثرية التي شغلتكم. برئوا أنفسكم وكرموا وجه العلم من أن تخلعوا على كل رأي قديم، مهما كان أمره، هذه القدسية التي لا يعرفها الإسلام إلا لله ورسوله!
إن هؤلاء الذين سبقوكم قد قاموا بما يجب عليهم، وأدوا إلى الله أماناتهم، ولبوا حاجات عصورهم وكانوا يصدرون فيما يرون أو يقولون عن نظر وتأمل واقتناع، فمن البر بهم أن تسيروا على سنتهم، وأن تهتدوا بهديهم: فتلبوا حاجات عصركم - في حدود الشريعة - كما لبوا حاجات عصرهم، وتصدروا عن فهم ووزن صحيح لحاجات أمتكم، كما أصدروا عن مثل ذلك
ذلك هو النداء الروحي الذي يشعر الأزهري الناضج بأن الأمة تنادي به الأزهر؛ وذلك هو