للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم فسمعهم يخوضون في القدر، فغضب حتى احمرت وجنتاه وقال: أفبهذا أمرتم؟ إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال!

هذه طريقة السلف الصالح في الإيمان بالله وما أخبر به من الغيب: لم يكونوا يكلفون أنفسهم شيئاً من التفاصيل التي لم يذكرها الله في كتابه، ولم ترد عن الصادق الأمين من طريق يعول عليه في إثبات العقائد، لأن العقائد إيمان ويقين لا يغني فيهما الظن: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً!

وقد أدركوا بما لهم من العقول الصافية أن قياس الغائب على الشاهد لا يستقيم، وأن الله كلفهم بالإيمان بالغيب كما يريده غيباً يحتفظ به لنفسه ولا يطلع عليه أحداً من خلقه (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) (وما كان الله ليطلعكم على الغيب)

وعلموا أن الاشتغال بما لم يأذن به الله من هذه التفاصيل هجوم على الغيب، وتعقيد للعقيدة، وتشتيت لأفكار المسلمين، وصرف لهم عما يجب من العمل بمقتضى إيمانهم إلى أنواع من الجدل، ليس فيها فائدة في العقيدة ولا في العمل!

وقد كان لهم في العبادات شأن كهذا الشأن: يعبدون الله كما يريد الله، لا ينظمون ذلك على ما يشاءون، ولا يبتدعون فيه أو يحدثون علماً بأن العبادة، أنواعها ورسومها وهيئاتها، شأن يرجع فيه إلى المعبود ويؤخذ فيه بما ارتضاه لنفسه، وإذا كان الملوك والحكام لا يستحبون لأنفسهم، ولا يرضون من رعاياهم أن يخرجوا على تقاليدهم أو يعدّلوا فيها، بل يوجبون في تشريفاتهم أوضاعاً خاصة، وملابس خاصة، وأوقاتاً خاصة، فهل يجوز للناس أن يبتدعوا أو يخترعوا في عباداتهم ما لم يأذن به مالك الملوك؟

لهذا كله سلم الدين في عهد الأولين من الابتداع والتفرق بالأهواء. ولم يدخل على العقائد والعبادات ما دخل من بعد، ولم يكثر الزيغ والإلحاد، ولم تتحير العقول، ولم يتقاذف الناس في الدين والعقيدة تهم الكفر والزندقة والفسوق تجري على ألسنتهم بغير حساب!

أما سنة الأولين في النظر إلى المعاملات وأحكام الحياة، واستنباط ذلك من شريعتهم: فقد فهموا أن هذه الشريعة إنما وضعت لإسعاد العباد وتحقيق مصالح الناس، وأنها تقوم على أساس العدل والرحمة، وأن السياسة الصالحة جزء من أجزائها وفرع من فروعها

فهموا ذلك، فلم يتعنتوا، ولم يتزمتوا، ولم يضيقوا واسعاً، ولم يحجروا على العقول

<<  <  ج:
ص:  >  >>