والأفكار، ولم يصادموا حرية الرأي، ولم يفرضوا على الناس مذهباً بعينه، ولم يقفوا أمام أحداث الزمن جامدين، بل وضعوا لكل مشكلة حلها، ولكل قضية قضاءها، وفتحوا باب الاجتهاد والرأي والنظر ليجاروا سنة الله في الحياة التي لا تعرف الركود ولا الجمود، والتي لا تنتظر المتخلفين والمترددين، ورسموا لذلك حدوداً لا يقصد بها تقييد العقول ولا التضييق على الأفكار؛ ولكن يقصد بها تنظيم الفكر، وتقويم الرأي، وتجنب الزلل، وضمان الصواب!
استمدوا كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، ومن مقاصد الشريعة الكبرى التي هي رعاية المصلحة، وتحقيق معنى العدل والرحمة، وتطبيق ما تقضي به السياسة الرشيدة والقياس الصحيح!
وقد أوسعوا بذلك دائرة الشريعة علماً وعملاً، ولبوا بها مطالب عصورهم ونهضوا بحاجات قومهم وأوطانهم، واشتركوا مع رجال الحكم والرأي في تدبير شئون الأمة، والحفاظ عليها، وحياطة دينها وشريعتها؛ وكان لهم في ذلك مفاخر ترفع الرءوس وتكرم شأن العقول، وتحدث عنهم بأنهم عرفوا لأنفسهم حقها ومتعوا عقولهم بلذات النظر والفكر!
أخصبت في ظل هذه الحرية الفكرية عقول المسلمين، واتسع نطاق الرأي والنظر في جميع علوم الإسلام، وكثر المجتهدون والمستنبطون لأحكام الشريعة، وانبثوا في كل قطر من أقطار المسلمين، وصاروا يعدون بالمئات لا بالآحاد ولا بالعشرات؛ ووجد الخلفاء والأمراء والقضاة والحكام حاجتهم من المبادئ والأحكام والنظم والقوانين في الشريعة، فلم يحاولوا الخروج عليها، ولم تحدثهم نفوسهم بنبذ أحكامها أو استبدال غيرها بها، واحتفظت الشريعة بما ينبغي لها من الاحترام والمكانة والكلمة العليا في المراكز العملية وقصور الحكم والسلطان، ودور الإدارة؛ ولم تقصر على الدراسات في المدارس أو المساجد، ولم يتخذ أهلها وحملتها طابع الروحية والكهنوت، يحشرون لأيام الزينة، ويعرضون للاحتفالات!
هكذا كان شأن علمائنا السافين في فهم العقائد، وإدراك المقاصد، وتطبيق أحكام الله: تسليم فيما يتصل بالعقائد والعبادات أغناهم عن الجدل والتفرق بالأهواء والبدع، وحرية واجتهاد في فقه الحياة، فتحا أمام الناس أبواب الحياة!