وليل كموج البحر أرخى سدوله ... على بأنواع الهموم ليبتلى
وأبعد في الرحلات والأسفار حتى وصل إلى بلاد الروم، ودخل أنقرة. ويقال أنه لقي قيصر وأتيح له من أسباب الرحلة ما لم يتح لغيره لغناه وشرفه ومكانه من السيادة في قومه، إلا أنه لم يدون هذه الرحلة في شعر طويل أو في نثر عريض، ولكنه أشار إليها في بعض قصائده
ولقد طاف أبو بصير الأعشى كذلك وأكثر من الرحلة، وظهر لذلك بعض الأثر في شعره، فقال:
قد جبت ما بين بانيقيا إلى عدن ... وطال في العجم تردادي وتسياري
وأدخل بعض ألفاظ أعجمية في شعره تظرفاً أو تعالماً كقوله:
وشاهدنا الجل والياسمي - ن والمسمعات بأقصابها
إلا أنه لم يصنع أكثر مما صنع أمرؤ القيس
وجاء الإسلام وفتح المسلمون بلاداً جديدة، ودخلوا أرضاً كثيرة لم يدخلوها، وصار إليهم ملك واسع يحتاج إلى سهر كثير لحفظه، ويحتاج إلى تعب كثير لضبطه. فعرفوا الكثير عن البلاد المفتوحة ودروبها وجوادها وجبالها وأنهارها وغلة أرضها ومتنوع ثمارها ليجمعوا الخراج على قدر ذلك وليفرضوا الأموال على نسبته. ولم تكن هذه المعرفة مبنية على علم دقيق أو بحث متين ولكنها كانت تميل إلى التقريب أكثر منها إلى التحديد
ثم كثرت الرحلات التجارية بين أجزاء المملكة الإسلامية - وهي تذكرنا برحلتي قريش في الشتاء والصيف - إلا أن هذه كانت بين أقطار بعيدة وكانت تحمل من عروض التجارة ألواناً عديدة
ولقد ساهم الشعراء في نوع جديد من الرحلات يلتمسون به المال ويطلبون العطاء من ممدوح يقصدونه، أو عظيم يندبونه، فيكون ذلك الاتصال سبباً في بروز الشعراء وتألق نجمهم. يخرج الواحد منهم من رمال البادية إلى معالم الحضر، أو يخرج من مدينة إلى مدينة، أو يرحل من قطر إلى قطر طلباً للجاه والشهرة؛ ولكن واحداً منهم لم يفكر في تدوين رحلة أو تسجيل مشاهدة، لأنه مشغول عن ذلك كله بالحاجة التي قام إليها وركب الأسفار