هي ليلة من ليال، ومن لم يعش كما عشت فليس من حقه أن يقول بأنه اكتوى بنار الصيال بين الهدى والضلال
وما ليلتي الحاضرة بين الليالي؟
مصباح وقلم ومداد وقرطاس، وآمال بيض، وآلام سود، وقرار في دار تواجه الصحراء في ليلة قمراء، والقمر يشجع أفاعي الفيافي على الدبيب والوثوب
ليلتي الحاضرة ليلة كرب وبلاء، فبرج بابل تعتلج فيه خواطر اشد سواداً من قلب الغانية التي لطمت وجهها منذ سويعات في أعقاب موجة من موجات العتاب، وبرج بابل يقول بأن الحوادث تنذر بالشر الوبيل في مدائن منها الإسكندرية وبور سعيد والسويس وبغداد، وتلك أول مرة صرح فيها برج بابل بأشياء وأشياء، فمتى أرجع إلى جهل ما في ذلك البرج من أحابيل وعقابيل؟!
أنا أملك أمري في الليلة الحاضرة، فليس بيني وبين دار هوى غير خطوات، ولكن بلائي صيغ من الليالي المواضي، فمن الليالي المواضي نسجت عواطفي وأحلامي وأوهامي وظنوني، وهل أنا إلا مجموعة آراء وأهواء كتبت صحائفها الأولى في القاهرة ودمشق والقدس وبغداد وقرطبة وتونس وباريس؟
لو فكرت في إحصاء المدائن التي تعلمت في مدارسها المعروفة والمجهولة، ولو فكرت في إحصاء من استفدت بمعارفهم من أهل الشرق وأهل الغرب، لوصلت إلى القول بأني شخصية دولية لا يستقل بها بلد عن بلد ولا جيل عن جيل، فكيف أملك الفرار من الجزع لآلام المكتويين بنيران الحرب ولو كانوا - رسمياً - من أعدائي؟
ولو فكرت في أن الغانية التي لطمت وجهها الجميل في أعقاب العتاب لم تخرج على الأدب في خطابي إلا وهي مثقلة بأوهام نشأ بعضها في الشرق وأخذ بعضها عن الغرب لنظرت إليها كما أنظر إلى الطفل الذي يجرم وهو غير مسئول
وهل تسأل صحراء مصر الجديدة عن الإمحال وقد هجرها الغيث؟
أن كان ذلك فستسال القلوب التي أذويتها بجفائي، وما كنت من الجافين، لولا الشواغل التي صيرتني أقسى من الجلمود في محاجر أسوان