وفي ظل هذه السلم يترك الناس في شتى معاملاتهم إلى طبيعتهم وما يرون أن يسيروا عليه من نظم: يتركهم يتعاملون ويتبادلون المنافع ويتعاونون ويختلطون، لا يقيدهم في ذلك بقيد إلا ما تقتضيه طبيعة الشريعة بالنسبة للمسلمين من حظر أنواع من التعامل والعلاقات كالربا وزواج الكتابي من المسلمة، وزواج المسلم ممن لا تدين بدين سماوي ونحو ذلك
ولا يحظر الإسلام على المسلمين أن ينشئوا بينهم وبين غيرهم من العلاقات ما يرونه مصلحة لهم وعوناً على حياتهم في شئون التجارة والصناعة والسياسة والعلم والثقافة: ينظمون ذلك على الوجه الذي يتبين صلاحه، والذي تقضي به سنن الاجتماع الفطرية، والذي لا يتعارض مع دستورهم الخاص
وقد وضع القرآن الكريم أساس الدستور لهذه العلاقة السلمية إذ يقول:
(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين)
فهذه الآية تبيح للمسلمين أن ينشئوا ما شاءوا من العلاقات بينهم وبين الذين لم يعتدوا عليهم في الدين أو الوطن، بل تجيز أن تصل هذه العلاقات إلى حد البر بهم والإحسان إليهم
هذه هي الحالة الأولى: حالة السلم والوئام؛ أما الحالة الثانية: حالة الحرب والخصام، فقد نظر الإسلام إليها من نواح متعددة:
١ - نظر إلى الحرب في ذاتها كأمر تدعو إليه طبيعة الاجتماع البشري، فلم يحاول أن ينكرها، ولا أن يعارض مقتضيات الفطَر فيها، ولكنه اعترف بها كوسيلة لا بد منها لدفع العدوان، وتقليم أظافر الطغيان، وكبح جماح المفسدين:
اعترف بها لأنه يعلم أن طبيعة البشر وسنة الاجتماع كثيراً ما تفضيان إلى التنازع، والبغي، والتنكر للحق، والاعتداء على الحريات، والفتنة في الدين. والإسلام شريعة عملية إصلاحية لا تغمض عن الواقع، ولا تسترسل وراء الخيال. ولو لم يقرر الإسلام الحرب ويعترف بها لتكون وسيلة من وسائل المقاومة ودفع العدوان، وإزالة العقبات من طريقة دعوته إلى الخير العام، لقضت عوامل الشر والفساد التي تؤازرها دائماً قوى الطغيان والعناد على هذه الدعوة وهي في مهدها، ولحرمت الإنسانية أن تجتني ثمراتها الطيبة في معاشها ومعادها