ثم يصورها لنا بما لا يكاد يختلف عن الحقيقة في شيء، بعد أن يكسوها حُللاً من فنه، وأثواباً من عبقريته. وكثيراً ما يُطوّف في الأحياء والأمكنة البعيدة، ويستلهم من غريب مشاهداته وعجيب مصادفاته مادة غزيرة لقصصه
وقد يصور في قصصه البائسين والفقراء، والتاعسين والأشقياء، وغيرهم ممن طحنتهم الحياة بالهموم وغمرتهم بالآلام. ولكنه في هذه الصور يُخفي الشفقة والرحمة ويبدو قاسيَ القلب متحجر الفؤاد، لا يحاول أن يستدر الدمع بمناظر البؤس، ولا يستنزل الرحمة بصور الشقاء، ولا يصغي إلا إلى صوتٍ واحد هو صوت الفن. ومن هنا قال الناقدون بانعدام الطابع الإنساني في قصصه، وهو في ذلك على نقيض تام مع (ألفونس دوديه)، فهذا يحاول أن يُشعر القارئ بالألم والحزن في جميع أقاصيصه ورواياته. فنراه يبكي ويستبكي حزناً على الأشقياء والمتألمين. بينما نرى ذاك كصانع التماثيل الفنان، لا يهمه وهو ينحت تمثاله سوى الفن والإبداع، لذا يضرب بأوائله أينما شاء وحيثما قضى الفن، لا يدري أآلم بضربه أم لم يؤلم، ولكنه يعرف حق المعرفة أأصاب في نحته أم أخطأ
وفي رأينا أن الحق هنا في جانب (موبسان)، لأنه يَعرِض قصصه دون أي تعليق، فهو يرينا صورة البائس دون أن يقول:(هاكم هذا البائس! ارحموه أيها الناس وأشفقوا عليه)؛ بل نراه يقول من طرف خفي:(هاكم قصة هذا البائس! فأشفقوا أو لا تشفقوا). وعلى القارئ وحده أن يكون ذا حس مرهف وشعور دقيق، فيرحم من يستحق الرحمة ويقسو على من لا يستحقها. ولنأخذ مثالاً بسيطاً على ذلك: في إحدى أقاصيصه المسماة (والد سيمون)، يصور لنا فتاة خطبها رجل فاستسلمت له قبل الزفاف. . . ثم هجرها الخطيب، ووضعت منه بعد مدة طفلها غير الشرعي، ونشأ الطفل بعد ذلك يحف به العار دون أن يكون له في ذلك ذنب أو إثم. وهنا يظهر موبسان في قسوته المزعومة على الأشقياء والبائسين، إذ أنه لا يكتب في قصته كلها كلمة واحدة تبعث في نفسك الشفقة على هذا الطفل البريء، أو تثير في كوامنك الرحمة لتلك الفتاة المظلومة؛ بل يشير إلى خجل المرأة من الناس واعتزالها إياهم، ويصور لك ذلّ الطفل وعذابه واضطهاد رفاقه له، لأنه على حد زعمهم (ليس له أب). ثم يصفه لنا وهو على وشك الانتحار بعد أن شبع رفاقه من السخرية به وإسماعه لواذع الكلام. . . ولا يُخلَّص الفتاة وطفلها من العار والموت سوى