قصر النيل يقع بضاحية (سيدي بشر) وكان قبل وصولنا إليه معموراً بجماعة من أسرى الألمان في الحرب الماضية
في تلك المدة فُتِنْتُ فتنة شديدة بالمحصول الذي يصدُر عن (الأمة) و (الأهالي)؛ فكان الجدل لا ينقطع بيني وبين إخواني من المعتقلين حول ذلك المحصول الجزيل، لأن المعتقلين كانوا ينقسمون إلى معسكرين: معسكر الحزب الوطني ومعسكر الوفد المصري
فلما قضى الله بانتهاء كرب الاعتقال كان أول همي أن ازور الأستاذ محمد الههياوي رئيس تحرير (الأمة) والأستاذ عبد القادر حمزة رئيس تحرير (الأهالي)
وفي جريدة الأمة لقيت فقيد الوطنية عبد اللطيف الصوفاني بك فحّياني والدمع في عينيه، وقدّم إليّ خمسة جنيهات لأقضي بها في الإسكندرية أياماً أنسى بها متاعب الاعتقال، فما دخلت الإسكندرية أول مرة إلا في سيارة مقفلة من سيارات الجيش الإنجليزي وفي ظلمات الليل
ومضت إلى جريدة الأهالي فرأيت فيها الأستاذ عبد القادر حمزة، ورأيت في صحبته رجلاً بساماً هو الأستاذ محمد أبو العزّ، وفتّىً عبوساً هو الأستاذ أحمد سعيد
وفي أوائل سنة ١٩٢١ دعاني الصوفاني بك لرياسة تحرير جريدة (الأفكار) وكنت من محرريها قبل الاعتقال، فبذلت ما بذلت من الجهود في تأييد الحزب الوطني ومقاومة الوفد المصري؛ ولكن الأقدار لم تمهلني في رياسة تحرير الأفكار
غير عام وبعض عام. فقد اتفق الصوفاني بك مع الأستاذ عبد القادر حمزة اتفاقاً بأن تصبح الجريدة (وطنية وفدية) واشترط الأستاذ عبد القادر شروطاً كان أهمها أن يكون حرّ التصرف في اختيار المحررين. واشترط الصوفاني بك أن يكون للحزب الوطني محرر يعتمد في رعاية ما يهم الحزب من دقائق الشؤون، وكان ذلك المحرر هو زكي مبارك. وَقبِل عبد القادر هذا الشرط وفي نفسه أشياء، ومن اجل هذا لم يسمح بأن أنشر في الأفكار غير مباحث أدبية لا تقدِّم ولا تؤخر في السياسة الحزبية!!
ثم فوجئ عبد القادر بأن لي نشاطاً صحفياً يغيب عن عينه الواعية، وهو مقالات كنت أرسلها إلى جريدة (الأمة) بإمضاءات مختلفات؛ فأدرك أن لا أمل في أن أسير كما يسير، وأني لو وجدت مسدساً لصوبته بلا ترفق إلى سعد زغلول!