على درج (البلاغ) متهلل الوجه غير صامت. بل كان يعلن إلى كل من يلاقيه في صوت قوى: لقد اقبل (. . . .). . .!
ولا يزال في وعي صوت عبد القادر حمزة إذ ذاك أحس فيهِ قوى الغلب والنصر بعد كفاح طويل وبعد صبر طويل. ذلك قلب الرجل الذي قوي في بغضه قوي في حبه، وذلك هو كان في بغضه!
أما عبد القادر حمزة في حبه، فذلك شئ عجيب
في صيف سنة ١٩٣٨ وكانَ المرحوم عبد القادر باشا مسافراً إلى أوربا، وكنتُ إذ ذاك في الإسكندرية؛ فذهبت لوداعه على الباخرة محمد علي الكبير. وبقيت معهُ على ظهرها حتى أوشكت على الرحيل. ونظرت إلى وجه أستاذنا العظيم في تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - وكان إلى جانبه أحد أولاده وقد وقف ينظر وكأنه يبكي، إلى أولاده الآخَر ومودعيه على الميناء. فلما أوشكت الباخرة أن تسير، سمعته يميل على ولده يقول:(انزل يا محمود وروَّح مع اخوتك من الشمس)
وبعد قليل نزل ولده ونزلت. وقد أحسست في ذلك الوقت أنهُ ما كان مشفقاً على ولده من حرقة الشمس وحدها؛ بل كان مشفقاً عليهم وعلى نفسه حرقة تلك اللحظة القاسية - لحظة الوداع - فقد كان عبد القادر حمزة حين تحركت محمد علي الكبير منحرفة إلى البحر وقد أخرج الركب أيديهم ومناديلهم يشيرون بها إلى مودعيهم وأحبائهم. كان عبد القادر حمزة أسرعهم جميعاً إلى التواري وأقلهم إشارة وحركة
لقد كان يشفق على نفسه أن يطيل ساعة الوداع، وقد كان قبل ذلك بقليل يسلّم على ولده ويدهُ ترتعش ولا يكاد يبين من لفظه صوت
أما ذلك اليوم الذي ماتتْ فيه ابنته سعاد؛ وأما تلك الساعة التي ذهبنا فيها معه فيها نواريها التراب، حين نزل معها إلى فجوة القبر وانحاز إلى ركن منه مظلم رطيب، وأما حينَ هو يبكي كطفل ورأسهُ بين يديه لا يريد أن يترك ابنتهُ، على رغم أنه يغالب حزنه العظيم ونحن معهُ فلا يستطيع. أما ذلك اليوم وهذهِ الساعة من حزن عبد القادر حمزة وعصيانهُ أن يصعد من قبر فتاته وقد وسدت في الترابْ.