للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فهو مخطئ أيما خطأ، وجاهل بحق الرجل أيما جهالة.

فقد كان فريد على نقيض ذلك أوسع أقرانه علماً بالسياسة العالمية وأوسعهم نظرة إلى العلاقة بين شؤون الوطنية وشؤون الدول والحكومات في العصر الحاضر.

فلم يكن من أصحاب النخوة المحصورة أو الحماسة الضيقة التي تحسبها العصبية بين حيطان بلادها فلا تعدوها إلى غيرها، ولكنه كان يضرب بنظره شرقاً وغرباً ليتابع الأحوال قديما وحديثا متابعة العليم بما بين أطوار العالم ومصير أمته، وبما بين الحركات الإنسانية والحركات القومية من اتصال وتبادل في التأثير. ومن مقالاته قبل خمسين سنة مقالة عن المواصلات البرقية في العالم، وسياحة الرحالة (سفن هدين) في أواسط أسيا، وإنجلترا واسيا بأفريقيا، والإنجليز في غرب أفريقيا، والروسيا في مملكة كوريا، ومطامع أوربا في الصين، ورئاسة جمهورية الولايات المتحدة؛ وأشباه هذه الموضوعات التي لم تكن بينها وبين الحركة الوطنية المصرية صلة قريبة في رأي الأكثرين من كتاب ذلك الجيل والذي اذكره أنا من ذكرياتي الخاصة أنني أفدت من فريد المؤرخ قبل أن أفيد من فريد الزعيم، وأنني قرأت تأريخه للدولة العثمانية قبل أن اقرأ له مقالة سياسية، وقلب أن يتفرغ للدعوة الوطنية ويشتغل بها ذلك الاشتغال الذي صرفه عن التأليف.

وسمعت بعض الأدباء يقول وقد وقع في أيدينا كتاب من كتبه التاريخية: ألم يكن انفع لمصر أن يمضي هذا الباحث المنقب في الشوط الذي بدأه بتاريخ محمد علي، وتاريخ الدولة العثمانية، وتاريخ الرومان، وما إلى هذه المباحث التي لا يزال فراغها محسوساً في المكتبة العربية؟

فوافق الأديب أناس وخالفه أناس، وكان كاتب هذه السطور من مخالفيه ولا أزال من مخالفيه، لان فريداً قد اخرج لنا في القداسة الوطنية طرازاً منقطع النظير، ولم نخسر مع هذا طرازه في عالم البحث والتأليف، وربما كان اصدق ما يقال في سير العظماء (أن الخيرة في الواقع)، خلافاً لما يتمنون لانفسهم، وخلافاً لما تمناه لهم الأصدقاء، وهي قولة مأثورة تنطبق على سير الحاملين فيما نرى، كما تنطبق على سير النابهين.

ولقد كتب فريد صفحات طوالاً في تاريخ القسطنطينية لم يكن عسيراً على من دونه علماً وخلقاً أن يكتبوها أو يكتبوا أمثالها، أما الصفحة التي كتبها لنفسه في القسطنطينية أيام

<<  <  ج:
ص:  >  >>